يشهد إقليم اشتوكة آيت باها، منذ أشهر، تحولاً تنموياً غير مسبوق، مدفوعاً بدينامية جديدة في الإدارة والتدبير، تسعى إلى تجاوز الخصاص المتراكم وبناء اقتصاد محلي متنوع ومستدام. تحت قيادة عامل الإقليم، السيد محمد سالم الصبتي، اعتمد الإقليم مقاربة جديدة عنوانها الأبرز هو “الحكامة الترابية الميدانية”، والتي نقلت مركز القرار من المكاتب إلى الميدان، مُرسيةً بذلك دعائم التخطيط المندمج والتتبع الصارم للأوراش، استجابةً للتوجيهات الملكية السامية الداعية إلى تنمية ترابية شاملة وعادلة.
تتركز الجهود الحالية على ثلاثة أولويات استراتيجية: تسريع مشاريع البنية التحتية المتعثرة بجدية ومسؤولية ؛ تعزيز الجانب الاجتماعي والصحي عبر فك العزلة ودعم الإدماج الاقتصادي للشباب ؛ وتنويع الاقتصاد المحلي من خلال استثمار المؤهلات وتعزيز الاستثمار السياحي.
هذا الملف يرصد مسار هذه الدينامية التي حولت اشتوكة آيت باها إلى نموذج للتنمية المرتكزة على القرب والشفافية.
- 1. المقاربة المنهجية: من الإدارة التقليدية إلى الحكامة الميدانية
أولى ملامح التحول في اشتوكة آيت باها كانت في تغيير منهجية العمل نفسها. فلم يعد العامل مجرد مسؤول إداري، بل أصبح شريكاً مباشراً في التنمية، يحرص على إنزال الإدارة إلى الميدان لتجاوز منطق التدبير البيروقراطي والتقليدي.
جولات التشخيص المباشر وإنهاء التعثر:
تميزت الأشهر الماضية بسلسلة من الجولات الميدانية المنتظمة التي شملت مختلف الجماعات القروية والحضرية. هذه الزيارات لم تكن بروتوكولية، بل لقاءات تشخيصية وقف فيها العامل شخصياً على مشاكل البنيات التحتية الطرقية، وإكراهات الماء الشروب، ووضعية المدارس والتهميش في القرى الجبلية.
في خطوة حاسمة لكسر حواجز التعثر، ترأس السيد الصبتي اجتماعاً تنسيقياً يوم 1 يوليوز 2025 لتقييم مسار ومآل مشاريع شركة “العمران” في جماعتي سيدي بيبي وآيت عميرة. وخلال هذا اللقاء، شدد العامل على ضرورة الجدية والمسؤولية العالية المطلوبة في التعامل مع الملفات المطروحة، خاصة في ظل تأخر بعض المشاريع، داعياً إلى إطلاق دينامية جديدة من التنسيق الفعّال لضمان تنزيل الورشات وخدمة مصالح المواطنين. وخلص الاجتماع إلى توصيات عملية لتتبع المشاريع ومواكبة ملفات التسوية الإدارية والعقارية. كما طالب العامل بالإسراع في إيجاد حل مستدام لملف المطرح الجماعي لسيدي بيبي، مراعاة للبعد البيئي وشروط العيش الكريم للساكنة.
المقاربة التشاركية والشفافية:
كسرت هذه المنهجية الصورة البيروقراطية التقليدية للسلطة، إذ أصبح المجتمع المدني شريكاً أساسياً في صياغة الرؤية التنموية. انعقدت لقاءات مع جمعيات الشباب، والمناطق الجبلية، والفاعلين في محاربة الهشاشة، لتبادل المعطيات حول التحديات الاجتماعية، والنقل المدرسي، والهجرة القروية، وإدماج النساء والشباب اقتصادياً. وقد انعكس هذا المنهج التشاركي في لقاء خاص وغير مسبوق مع الصحافة المحلية، اعترافاً بدور الإعلام في تتبع الشأن العام، ومحاربة الشائعات، ونقل آراء المواطنين، وتعزيز الشفافية، مؤكداً على أهمية “القرب الإعلامي”.
- 2. الإنجازات الملموسة: دفعة قوية للخدمات الأساسية
ترجمت الدينامية الجديدة إلى حزمة من المشاريع المنجزة والمطلقة في قطاعات حيوية، شكلت دفعة قوية للنهوض بالبنيات التحتية والخدمات الاجتماعية، خصوصاً في المناطق القروية والنائية، مستهدفةً التقليص من الفوارق المجالية والاجتماعية.
تجويد العرض الصحي وفك العزلة الطبية:
شهد قطاع الصحة تحولاً نوعياً من خلال استراتيجية القرب والرقمنة. أطلقت مؤسسة محمد الخامس للتضامن وحدة طبية متنقلة في مركز جماعة آيت وادريم، مجهزة بأحدث تقنيات التطبيب عن بعد وطاقم كفء. يُراهن على هذه الوحدة، التي تخدم حوالي 40 ألف نسمة في 11 جماعة جبلية ، لتعزيز الولوج إلى العلاجات المتخصصة في المناطق النائية.
كما تم تدشين مستوصفات قروية من الجيل الجديد وسكن وظيفي في كل من دوار أغرايسن بجماعة واد الصفاء (1.2 مليون درهم) ، ودوار بنكمود بسيدي بيبي (1.152 مليون درهم). وخلال ذكرى 20 غشت، تم تدشين مستوصف مماثل بدوار آيت ميمون بسيدي بيبي (1.3 مليون درهم). هذه المؤسسات الجديدة تركز على العلاجات الأساسية، وصحة الأم والطفل، ومتابعة الأمراض المزمنة، وتأتي ضمن مخطط لتعزيز شبكة المراكز الصحية للقرب وتطوير منظومة العلاجات الأساسية.
البنية التحتية والعدالة المجالية بالأرقام:
تجسد الالتزام بتدارك الخصاص في الأرقام المعلنة لبرامج التنمية:
رُصد لبرنامج التقليص من الفوارق المجالية والاجتماعية غلاف مالي قدره 720 مليون درهم لقطاعات الطرق، والتعليم، والصحة، والماء الشروب.
وصل إجمالي تدخلات المبادرة الوطنية للتنمية البشرية المخصصة لتدارك الخصاص إلى 20.7 مليون درهم، استفاد منها حوالي 106 آلاف نسمة لتغطية الكهربة والماء والطرق القروية.
في قطاع الطرق، أعطيت انطلاقة أشغال بناء طرق جماعية بدوار أغبالو (سيدي وساي – 4.9 مليون درهم). وخلال احتفالات ذكرى 20 غشت، تم إطلاق مشاريع طرقية في آيت ميلك بغلاف مالي قدره 7.7 مليون درهم، شملت الطرق المؤدية إلى مدرسة أسرسيف وفرعيتي إنون وآيت تاول (2.57 مليون درهم)، والطريق المؤدية إلى مدرسة تيوت (سيدي عبد الله البوشواري – 1.6 مليون درهم)، بهدف تجويد عملية تنقل التلاميذ وتشجيع التمدرس ومحاربة الهدر المدرسي في المناطق الجبلية الوعرة.
في بيوكرى، تم التأشير على الشطر الثاني من مشروع التطهير السائل بكلفة إجمالية تبلغ 25.20 مليون درهم، بتمويل تشاركي بين البرنامج الوطني للتطهير (12.60 مليون درهم)، وميزانية جماعة بيوكرى (7.80 مليون درهم)، ومجلس جهة سوس ماسة (4.80 مليون درهم). يهدف هذا المشروع إلى تحديث وعصرنة شبكة الصرف الصحي والقضاء على النقاط السوداء.
مشاريع الماء.. تأمين المستقبل:
نظراً لكون الماء التحدي الاستراتيجي الأول للإقليم، تم إطلاق مشاريع هيكلية لتأمين الحاجيات. أشرف العامل على إعطاء انطلاقة مشروع ربط مركز جماعة آيت اعميرة بقناة تحلية المياه بالدويرة. هذا المشروع الحيوي، بتكلفة 5.7 مليون درهم، سيعزز تأمين حاجيات أزيد من 78 ألف نسمة من ساكنة المركز، ومواجهة الطلب المتزايد على هذه المادة الحيوية في مجال يعرف دينامية اقتصادية متصاعدة. كما تم وضع الحجر الأساس لبناء خزان مائي بدوار آيت الرامي بآيت ميلك بتكلفة 0.5 مليون درهم.
التعليم والشباب:
في قطاع التعليم، تم تجاوز نسبة النجاح في امتحانات البكالوريا 61.5% برسم الموسم الدراسي الحالي. وتم تعزيز البنيات بوضع الحجر الأساس لبناء الثانوية الإعدادية “الأرك” في انشادن (10.7 مليون درهم) ، وافتتاح مؤسسة تعليمية في سيدي بيبي (13.3 مليون درهم). ولدعم الشباب، تم تقديم مشروع بناء ملعبين للقرب في آيت اعميرة (1.4 مليون درهم)، كما تم توزيع تجهيزات ومعدات على شباب الإقليم لتمكينهم من خلق مقاولات مُدِرّة للدخل، ضمن برنامج تشرف عليه مؤسسة محمد الخامس للتضامن. و في خطوة استباقية، تدارست السلطة الإقليمية سبل تكوين وإدماج الشباب في مهن الرقمنة.
- 3. التحول الاقتصادي: التنويع ضرورة استراتيجية
يُعد إقليم اشتوكة آيت باها “سلة غذاء المغاربة” ، بفضل قيمته الاقتصادية والفلاحية الهائلة. لكن الإكراهات المرتبطة بندرة المياه وتغير المناخ حتمت على الإدارة الترابية تبني مقاربة جديدة تنوع الدعامات الاقتصادية وعدم الارتهان للقطاع الفلاحي حصراً.
الرهان على السياحة والصناعة التحويلية:
أكد عامل الإقليم، خلال الدورة العادية للجمعية العامة لغرفة التجارة والصناعة والخدمات لجهة سوس ماسة (3 يوليوز 2025)، على ضرورة الاستثمار في قطاعات واعدة كـ السياحة الإيكولوجية والطبيعية والتراثية، والعمل على تطوير علامة سياحية محلية تحمل اسم “اشتوكة آيت باها” ودمجها في الخريطة السياحية للجهة. وتكريساً لهذا التوجه، دعت السلطات إلى تنظيم يوم دراسي موسع للتعريف بفرص الاستثمار السياحي بالإقليم.
في الجانب الصناعي، شدد العامل على أهمية تأهيل المناطق الصناعية الموجودة، وإحداث أخرى جديدة، خاصة في أمي مقورن، وتطوير قطاع الصناعة التحويلية والخدمات. كما أشار إلى أن وجود مقالع الإسمنت بالإقليم يفرض التفكير في إحداث مناطق صناعية خاصة بمواد البناء. وأكد العامل التزام الإدارة الترابية بتقديم كافة التسهيلات للمستثمرين، ودعم الاقتصاد التضامني والاجتماعي وتقوية النسيج التعاوني المحلي.
معالجة التعثرات الاستراتيجية:
من أولويات الأجندة الاقتصادية الجديدة معالجة المشاريع المتعثرة، وعلى رأسها مشروع بورصة البواكير. حيث أكد العامل على ضرورة إخراج المشروع من “وضعية التعثر” وتحويله إلى رافعة حقيقية للتنمية الاقتصادية، بالنظر إلى موقعه الحيوي في خارطة الإنتاج الفلاحي. هذا التركيز يعكس الجدية في متابعة الأوراش المهيكلة التي تعيق تأهيل الإقليم.
- 4. التخطيط الاستباقي: إطلاق برنامج التنمية الترابية المندمجة (PTDI)
انطلاقاً من التوجيهات الملكية الأخيرة، أطلق إقليم اشتوكة آيت باها مساراً غير مسبوق لإعداد جيل جديد من المخططات التنموية عبر برنامج التنمية الترابية المندمجة (PTDI)، حيث ترأس العامل الصبتي اجتماعاً موسعاً لإطلاق المشاورات في 22 غشت 2025.
أكد العامل أن هذا المخطط يجب أن يتضمن مشاريع محددة بدقة وعميقة الوقع، تستجيب للحاجيات الحقيقية للمواطنين، من خلال رؤية استباقية للإكراهات. وشدد على منهجية العمل القائمة على التنسيق الوثيق، التكامل، والتضامن بين مختلف المتدخلين والوحدات الترابية، في إطار مقاربة تشاركية موسعة.
محاور الورش الاستراتيجي:
تركز النقاشات ضمن ورش PTDI على أربعة محاور أساسية:
التشغيل ودعم البنية الاقتصادية (دمج الشباب في الرقمنة ودعم المقاولات الصغرى).
الخدمات الاجتماعية الأساسية (الصحة والتعليم).
تدبير الموارد المائية (ترشيد وحماية الفرشة المائية).
التأهيل الترابي المندمج (معالجة إشكالات التعمير وتبسيط مساطر البناء التي تعيق مشاريع المواطنين).
واستهدفت المشاورات بشكل خاص المناطق القروية والجبلية الأكثر هشاشة، مثل الدائرة الجبلية، لتعزيز الدينامية التشاورية وتحديد الحاجيات المستعجلة بدقة.
إقليم يتحول برؤية “من المواطن وإليه“
إن تجربة اشتوكة آيت باها في الآونة الأخيرة لا تقتصر على كونها مجرد إطلاق لمشاريع، بل هي مشروع إقليمي شامل يهدف إلى تغيير منهج التفكير والإدارة. لقد رسخت الإدارة الترابية نموذجاً للحكامة الميدانية التي تجمع بين الشفافية في التواصل والتتبع الصارم للأوراش.
هذا التحول المرتكز على “تنمية واقعية، من المواطن وإليه”، يشرك كافة الفاعلين من سلطات ومنتخبين ومجتمع مدني وقطاع خاص وإعلام في بناء مغرب الغد. ومع استمرار ورشات التنمية الترابية المندمجة، يظهر جلياً أن إقليم اشتوكة آيت باها يمضي قدماً ليصبح نموذجاً حقيقياً وملهماً للتنمية الجهوية الحديثة، يوازن بين تثمين مؤهلاته الفلاحية وبين ضرورة التنويع الاقتصادي لمواجهة التحديات الكبرى، وعلى رأسها أزمة الماء وتحديات التشغيل.
A.Bout












