“نساء لْمُوقْفْ” ..مطارداتٌ وتحرش واستغلال ورُكام من الهواجس اليوميّة

الرأي24

 

تخترقُ أشعة الشمس الصباحية جُدران حي أكدال العالية لتنكسر على ملامح وجوههن القَلقة. جالسات بالقرب من “قيسارية قيس”، على إسمنت الرصيف البارد أو متّكئات على سيارات مركونة بالجوار. يَفعلن، أمام فُوهة الوقت، ما يفعل السجناء والعاطلون عن العمل “يربّين الأمل” بتعبير درويش.

 

الانتظار سيّد “لمُوقَف”، وفي مواجهته يخضن في أحاديثهن اليومية المعتادة، عن الشقاء وغموض الغد، وعن ظروف الحياة التي قادتهن إلى مكان يرضى عنهن ولا يرضين به، ولكن يتسمّرن عنده مُكرهات، لساعات، لا يتحرّكن إلاّ لعرض خدماتهن على زبائن محتملين أو للاختباء إن لمحن سيارة شرطة قادمة.

“أزمة كورونا”

“.. غير البارح، جاو يحيدو ليا المكًانة ديال الضو، منين بدات كورونا، ماخصلتو.. ماعندي باش، تحنيت، كانبكي ونبوس ليهم يديهم ما يحيدوهاش، وعطاوني 3 أيام باش نخلص قبل ما يرجعو، ولكن فين غانجيب هاد الفلوس، هانا جالسة مشمشة..”، بلسان دارج ونبرة يعلوها الأسى، تلخّص فاطمة (اسم مستعار) جزءًا من صعوباتها الحياتية.

تعمل السيدة الخمسينية بالموقف منذ أزيد من عشر سنوات، تضع نفسها رهن إشارة من يرغب في القيام بأعمال البيت من قبيل الطبخ وتنظيف الملابس والزرابي وغسل الأواني. تُرابط في مكانها وسط حي أكدال، أمام حرّ الصيف ومطر الشتاء، رفقة كَتيبة من النساء الأخريات بين سن الثلاثين والستين، من الساعة التاسعة صباحاً حتى الخامسة بعد الزوال، في انتظار فرصة عمل يتكرّم بها أحد العابرين.

تكشفُ فاطمةٌ في تصريحها لموقع القناة الثانية: “أعمل بالموقف منذ سنوات طويلة، ولم نصل يوماً لمثل هذه المأساة، تأثّرنا ماديّاً ومعنوياً بشكل كبير خلال الفترة الأخيرة من جائحة كورونا، قبلها على الأقل، كانت الأيام تمنحنا فرص عمل، لكن الآن تغيّر كل شيء”.

تتابع: “أنا سيدة كبيرة، الطبيعي أن أكون مستقرة ببيتي، لكن تقلّبات الحياة غير رحيمة، زوجي مريضٌ وأبنائي عاطلون، وأنا من أعيلهم كلهم، جميع مصاريف البيت من مأكل ومشرب وكراء، أنا من يتكلّف بها.. دابا ملي ما كاين والو الغالب الله”.

إلى جانب فاطمة، نسوة أخريات، أرامل ومطلقات أو متزوجات من رجال عاطلين عن العمل. من بينهن خديجة (اسم مستعار) التي تؤكد لموقع القناة الثانية، تغيّر حياتهن مع الطارئ الصحي: “لم نعد نحصل على فرص للعمل، الناس يخافون من أن نحمل إليهم الفيروس، قبل كورونا، كنا نعمل على الأقل ليومين أو ثلاثة أسبوعياً، غير أنه اليوم تغيّر الوضع”، قبل أن تسترسل النسوة في شهادات جماعية: ” فرص العمل قليلةُ، قد نبقى لأسابيع بدون عمل، وبالمقابل تتراكم مصاريفنا التي علينا تأمين دراهمها، اليوم وراءَ الآخر”.

تتأكّد خديجةُ أنّ لا كاميرا تصوّر، تلتفت يمنة ويسرة كمن يريد أن يفصح عن سرّ خطير، وتضيف: “كانبقاو هنا بالسوايع، قاتلنا الجوع، واقفين ولا متكيات على الطموبيلات، وحاضيين مع البوليس بحال شي مجرمات، كانتسناو رزقنا، ملي كانعياو كانستراحو فهاد الظليلة، الخدمة قليلة بزاف، ما لاقينش باش نوكلو وليداتنا”.

“ملاحقات”

في البداية، تمنّعت بعضهن عن الحديث ورفضن المكاشفة بدون مبرّرات، فيما طلبت أخريات مقايضة شهادتهن بالمال، غير أنّ تقدّم فاطمة وخديجة لإعطاء تصريح وخوضهن في تفاصيل يوميّهن القاسي، دفع البقية للحديث طواعيةً عن المعاناة التي يكابدنها سواءً من حيث النزاعات فيما بينهن ومطاردات الشرطة بالموقف أو الاستغلال والتحرش بالبيوت.

تجمع النساء المستجوبات في تصريحهن لموقع القناة الثانية على أنّ ملاحقات الشرطة لمنعهن من الاشتغال، من أكبر المشاكل التي تؤرقهن وتضايقُهن يوميّا، توضّح إحداهن، “في مرات كثيرة يتمّ أخذنا إلى مركز الأمن، باش نبوانتيو”.

وتكشف المتحدثة عن حدوث مطاردات هنا بالموقف: “تتبعنا عناصر الشرطة ونهرب للاختباء منها”، عن الأسباب، تكشف المتحدثة أن بعض أصحاب المحلّات المجاورة يقدمون شكايات ضدّهن، تضيف “أحياناً تحدث مناوشات مع مّالين الحوانت، حيتاش كايحكرونا، حنا محكورين أصلاً وكيزيدونا هما”.

في خضم عملية أخذ الشهادات، تصيح إحدى العاملات بعد أن لمحت عربة شرطة “البوليس البوليس، فتهرول النساء يميناً وشمالاً للاختباء بين السيارات المركونة في الجوار”، وبعد أن تمر يعدن للانتشار بالشارع المقابل للسوق البلدي.

بعد عودتهن، تكشفُ خديجة وهي تلهث لالتقاط أنفاسها: “ديما فهاد الحالة، ملي كايوقفوا علينا كاين لي كايهزنا كاين لي كانبقاو فيه..”،  وأضافت بنبرة صوت أعلى تعكس عدم رضاها عن هذا الواقع “عندما يرى الناس الأمن وهو يطاردنا، يسيء هذا لسمعتنا وعملنا، كا يقولو ما عرفت هادو أش دارو، ومكايجيوش يديونا نخدمو..”.

بدورها تقول فاطمة: “ما عرفت اش بغاو عندنا، هاد الموقف كاين من أيامات الاستعمار، والناس خدامين فيه وكبروا به ولادهم، كون كان عندنا كاع ما نوقفو هنا.. فين بغاونا نمشيو”.

تحرش واستغلال

محنةٌ نسوة لموقف، لا تتوقف فقط عند مشاكل المطاردات والشجارات، بل تستمر في أحايين كثيرة حتى بداخل البيوت، في مواجهة سلوكيات غير لائقة تصدر عن بعض المشغّلين، ومن ضمنها التحرش الجنسي والاستغلال وعدم الالتزام بما اتفق حوله بخصوص المستحقات المالية.

مسجّل الصوت يواصل التسجيل، وخديجة تستمرُّ في البوح: “الناس طوب وحجر فيهم الزوين اللي كايعاملك باحترام ويقدر كاع يعطيك فلوس كثر ولا تقدية ديال الدار، ولكن شي مرّات كانتلاقاو مع شي وحدين آخرين، حرام واش يكونو بنادم، كاين لي كايبغي يتحرش بيك ويقيسك، واخا نتي قد أمّو ..”.

وتضيف: “مواقف مريرة نتعرّض لها في عملنا هذا، كاين عاوتاني، لي كايستغلك وكايبغي يستعبدك، خصوصاً شي عيالات، كاتخدم عندها حتال خمس سوايع ديال تمارة وفاللخر كاتلوح ليك مئة درهم، واخا اتفقتي معها على أكثر”.

أمام هذه الإهانات المتعددة، تبرز فاطمة: “كايبقا فينا الحال، حيتاش معندناش كيفاش نشكيو ولا علا من غا نغوتو، مكاينش القانون لي يحمينا، حيت خدامين فالنوار.. واخا تطيحي وتموتي مكاين لا تغطية ولا تأمين صحي، حياتنا ما ساوية والو”.

في المقابل تحمّل خديجة، جزءاً مهماً من مسؤولية تعرضهن لسلوكات غير لائقة، للعاملات بسبب “صمتهن وتطبيعهن مع الأمر”، فيما حمّلت جزءًا آخر من المسؤولية لبعض النساء اللائي يستغلن لموقف لعرض أجسادهن، “والمغاربة كايقولو، حوتة وحدة كاتخنز الشواري..” بحسب تعبيرها.

“جنس مقنّع”

وفي جوابها على سؤال حول حجم انتشار العمل الجنسي وسط عاملات الموقف، تقول فاطمة: “حنا بعدا كانديرو الميناج، العيالات الكبار غير الميناج، هادوك كل واحد كايدير شغلو، جا الميناج كايمشيو ليه، جات شي حاجة أخرى، كايمشيو ليها، الناس مضرورة بغاو غير يجيبو ما ياكلو، وكون كان عندهم مايمشيوش يعطيو راسهم..”.

وكمن يسعى لإزاحة تهمة عنه، تندفع فاطمة في جوابها: “ماشي كلشي العيالات، هادوك كايجيو غير يتخلطو معانا على أساس راه خدامات عادي، والبوليس بروسهم كايقولو لينا جريو عليهم”.

وتضيف: “كا يبان شكون كايجي هنا للخدمة ديال الميناج، وشكون كايجي باش يدير شي حاجة أخرى، هوما قلال بزاف، ومكايطولوش معانا هنا، وكاتشوفهم كاتعرف اش جايين يديرو، ولكن ما نسمحوش لشي حد يقول علينا شي هدرة..”.

وتضيف فاطمة أنّ استغلال “لْموقف” لأغراض جنسية، يزيد من تأزيم واقعهن ويكرّس صورة سلبية عنه، يذهبن ضحيتها خلال عملهن بالبيوت.

وبخصوص اختيارها لموقف أكدال، دون غيره من المواقف المنتشرة بالرباط وسلا، تقول خديجة:” كاين موقف فسلا حدا الدار، ولكن كانجي لهاد لبلاصة بالأساس، باش نبعدو على فين ساكنين، نبعدو على ولادنا وجيراننا، حيث الموقف هذا، هازين عليه الناس نظرة خايبة، ولكن ما عندنا مانديرو”، مضيفة:” وكاين ديال وسط المدينة، ولكن العيالات ديال ديك البلاصة مكايبغيوش لي يتزاد عليهم، وكانجيو لهذا د أكدال، حيت فيه عائلات أغلبها محترمة وطلبة نقيين، كاريين بوحدهم وكايبغيو لي يجمع ليهم الدار”.

“معاناة اللااستقرار”

في حديثها عن موضوع النساء المياومات، تعتبر رئيسة فيدرالية رابطة حقوق النساء، لطيفة بوشوى، أنّ “هؤلاء النساء باحثات عن رزق يوم، لا يعشن الاستقرار، على مختلف المستويات الاقتصادية والنفسية والصحية، حيث يعشن وسط دوامة يومية، ولا يملكن أي فكرة عن اليوم الموالي”.

وتابعت الفاعلة الحقوقية في تصريح لموقع القناة الثانية، أن القطاع غير مهيكل وبالتالي لا يوجد استقرار ولا ضمانات لتحقيق مدخول، مشيرةً أن وضع اللاستقرار يدفع النساء لعيش معاناة لا مثيل لها، صحيح أن الرجال المياومين يواجهن نفس الظروف لكن هناك بعض التأثيرات والجوانب التي يكون الرجال في منأى عنها، مثل التحرش الجنسي وسوء المعاملة في العمل.

“هن في وجه لوجه أمام محن عديدة، حيث يحتجن مناعة خاصة لمواجهتها، لأن عملهن ينطوي على طوارئ كثيرة”، تؤكد المتحدثة، مضيفةً أن للعاملات المياومات بالموقف، خصوصية مؤلمة كونهن، لسن في وضع مثل النساء في المعمل أو المصانع اللائي رغم كون شروط عملهم أيضاً متدنية إلا أنّ بها الحد الأدنى من الاستقرار والحماية على عكس العمل بالمياومة، الذي تتعرض عاملاته لاستفزازات مختلفة.

وأضافت المتحدثة، أنّ الجمعيات النسائية لا يمكن إلاّ أن تطالب بوضع المجهر حول وضعيتهن، خصوصاً أن الجائحة عرّت عن واقعهن، مع تراجع عروض العمل والظروف الصحية، حيث يمكن أن يكن عرضة للإصابة بالعدوى، أمام تنقلهن اليومي، علاوةً على ضعف مدخولهن وعدم وجود حماية صحيّة، أو أي وضعية قانونية.

واعتبرت بوشوى في تصريحها لموقع القناة الثانية، أنّ هذه إشكالاتٌ حقيقية، نطالب الحكومة بالالتفات إليها، لتنظيم هذا المجال بشكل يضمن كرامتهن وحد أدنى من العيش الكريم، وحمايتهن من العنف بكلّ أشكاله.

إلى ذلك، تبقى كلمات الفاعلة الحقوقية حول حلول الحكومة بعيدةً عن واقع فاطمة وخديجة والأخريات، وأمام استمرار إكراهات عملهن، لا يملكن إلاّ مواجهتها بكل قوّة وحزم، في انتظار فتح نقاش حقيقي حول وضعهن.

عن موقع القناة الثانية بتصرف

الأخبار ذات الصلة

1 من 1٬233