منذ عقود، ترسخت في جهة سوس ماسة عادةٌ غريبة أضحت، بمرور الزمن، أقرب إلى عرف إداري غير مكتوب: من أراد قضاء مصلحة في العاصمة الإدارية الرباط، ما عليه سوى أن يحمل معه قنينة عسل، قارورة زيت أركان، وكمية من أملو، في ما يشبه “جواز مرور ناعم” لولوج المكاتب وتيسير الملفات.
فمنطقة سوس، المعروفة بثروتها الفلاحية والطبيعية، خاصة العسل وأركان، لم تسلم من توظيف هذه الرمزية في “علاقات الزبونية” التي كانت تُغلف بالمجاملات لكنها تُخفي في طياتها تواطؤاً صريحاً بين بعض المنتخبين المحليين وبعض المسؤولين المعينين بالجهة.
بين العسل والتعاونيات… مصالح تتقاطع
وبحكم أن عدداً من المنتخبين في سوس هم أيضاً مالكو أو مؤسسو تعاونيات لإنتاج هذه المواد، فُتحت قنوات خلفية مع بعض المسؤولين الذين مروا على الجهة، وبدأت “لغة العسل” تحكم العلاقات الرسمية، على حساب القانون والمصلحة العامة.
تغاضى أولئك المسؤولون عن تجاوزات عمرانية، صفقات مشبوهة، واستغلال لموارد جماعية، مقابل “هدية موسمية” أو “تقدير ” متمثل في سلّة من زيت أركان وعسل جبلي وعلبة من أملو.
ما بعد العهد المُرّ… القادم غير مُحلى
لكن يبدو أن الزمن تغيّر، والربان الجديد يرفض أن تُدار شؤون الدولة بمنطق الهدايا. فالعامل الجديد،الذي حلّ بالجهة مؤخراً، لم يُظهر أي استعداد لفتح باب “العلاقات العسلية”، بل أثبت منذ أولى خطواته أنه يتحدث بلغة واحدة: لغة المحاسبة، وتطبيق القانون على الجميع.
مؤشرات عديدة برزت منذ تعيينه: زيارات مفاجئة، لقاءات مع الساكنة دون وسطاء، فتح ملفات عالقة، ومراسلات صارمة لمسؤولي الجماعات حول تضارب المصالح وسوء التدبير.
منطق جديد… وتخوف في “شبكات العسل”
هذا التغيير الملموس في طريقة العمل أثار انزعاج عدد من الوجوه القديمة التي اعتادت أن تحل مشاكلها بـ”سلة من المنتوجات المحلية”، لكنها الآن وجدت نفسها وجهاً لوجه مع مسؤول إداري لا يساوم، ويعتبر القانون هو المعيار الوحيد.
وفي الكواليس، بدأ الحديث عن أن “العهد الجديد” لا يرحب بـ”مؤونة المصلحة”، بل يطالب بمشاريع تنموية حقيقية، بخدمة المواطنين لا خدمة جيوب المتنفذين.
لغة العسل قد سقطت، والمحاسبة هي العنوان الجديد. جهة سوس ماسة اليوم على موعد مع تاريخ مختلف، تُطوى فيه صفحة التواطؤ “بنكهة أركان”، ليُفتح فصل جديد من الشفافية والحكامة الجيدة.
فهل سينجح هذا العهد في تحرير سوس من شبكة المصالح المغلفة بـ”العسل”؟ أم أن أصحاب الامتيازات سيسعون جاهدين لإعادة تدوير نفوذهم في قوالب جديدة؟
الجواب قد يكون في الأيام القليلة المقبلة، لكن الأكيد أن “القادم لا يُحلى بأملو… بل يُبنى بالعدل والمحاسبة”.