معضلة الماء بإقليم اشتوكة آيت باها: تحديات متفاقمة وحلول ملكية استباقية لمستقبل مائي آمن

يُعد إقليم اشتوكة آيت باها، الذي لطالما كان قاطرة الإنتاج الفلاحي في المغرب، اليوم في صدارة الأقاليم التي تواجه تحدياً وجودياً غير مسبوق يتمثل في ندرة الماء. إنها قصة تتجلى فصولها منذ سنوات، تفاقمت مع توالي مواسم الجفاف وشح الأمطار، وتهدد الأمن المائي والغذائي للمنطقة. وفي سياق خطاب العرش الأخير، أكد صاحب الجلالة الملك محمد السادس، في الذكرى الخامسة والعشرين لاعتلائه العرش، أن “من أهم التحديات إشكالية الماء، التي تزداد حدة بسبب الجفاف وتأثير التغيرات المناخية، والارتفاع الطبيعي للطلب، إضافة إلى التأخر في إنجاز بعض المشاريع المبرمجة في إطار السياسة المائية”. هذه الرؤية الملكية تضع معضلة الماء في صلب الأولويات الوطنية، وتؤكد على ضرورة اعتماد مقاربة استباقية وحلول جذرية.

جذور الأزمة: عقود من الاستنزاف والهشاشة المناخية
تعود جذور الأزمة المائية في اشتوكة آيت باها إلى تضافر عوامل تاريخية ومناخية معقدة:

الاستنزاف المفرط للمياه الجوفية: على مدار سنوات طويلة، شهد الإقليم توسعاً فلاحياً مكثفاً، لا سيما في زراعة البضائع المستنزفة للماء كالطماطم، الحوامض، ومؤخراً الأفوكادو، الموجهة بشكل كبير للتصدير. هذا التوسع أدى إلى استنزاف غير مسبوق للمياه الجوفية، حيث وثقت تقارير منذ عام 2020 وما قبله انخفاضات حادة في منسوب الفرشة المائية، وصلت في بعض المناطق إلى مستويات مقلقة.
توالي سنوات الجفاف وشح التساقطات: فاقم توالي ست سنوات من الجفاف بشكل عميق على الاحتياطات المائية والمياه الباطنية، مما جعل الوضعية المائية أكثر هشاشة وتعقيداً. وقد أثر ذلك بشكل مباشر على حقينات السدود الرئيسية التي تغذي المنطقة، مثل سد أهل سوس وسد يوسف بن تاشفين. في أواخر عام 2022، كانت نسبة ملء السدود في سوس ماسة منخفضة بشكل مقلق، مما أثار مخاوف جدية بشأن توفير الماء الشروب ومياه الري. في رمضان 2023، اضطرت الجهات الرسمية إلى تطبيق نظام “تقطير” للمياه لساعات محددة يومياً.
جودة المياه وتدهور البنية التحتية: لم يقتصر الأمر على النقص الكمي، بل طال الجودة أيضاً. فقد وردت تقارير عن اختلاط الماء الصالح للشرب بمياه الصرف الصحي في بعض الدواوير في عام 2023، مما يعكس تدهوراً في البنية التحتية ويضيف بُعداً صحياً للأزمة. كما ساهمت الشبكات القديمة وغير المؤهلة في هدر كبير للمياه قبل وصولها للمستهلك.
تأخر في إنجاز بعض المشاريع: أشار الخطاب الملكي إلى “التأخر في إنجاز بعض المشاريع المبرمجة في إطار السياسة المائية”، وهو ما يتجلى في بعض جماعات الإقليم حيث لم يتم تفعيل اتفاقيات الربط بمياه التحلية رغم توفرها.
الحلول الاستراتيجية: رؤية ملكية شاملة لمواجهة العطش
في مواجهة هذا الوضع المعقد، اتجهت السلطات إلى حلول جذرية وغير تقليدية، مستلهمة من التوجيهات الملكية السامية التي تضع أولوية تدبير الموارد المائية في صلب استراتيجية التنمية.

1. محطة تحلية مياه البحر باشتوكة: مشروع الأمل والتحول
تعتبر محطة تحلية مياه البحر باشتوكة، التي بدأ تشغيلها الفعلي منذ عام 2020، بمثابة ثورة في المشهد المائي للمنطقة، وتجسيداً للرؤية الملكية الطموحة. بفضل تقنية “التناضح العكسي”، تحولت مياه البحر المالحة إلى مصدر حيوي للماء الصالح للشرب ومياه الري.

القدرة الإنتاجية ودورها المحوري: بدأت المحطة بطاقة إنتاجية تبلغ 275 ألف متر مكعب يومياً (150 ألف متر مكعب للشرب و 125 ألف متر مكعب للري)، وهناك خطط لزيادة هذه القدرة إلى 400 ألف متر مكعب يومياً بحلول عام 2026. هذا المشروع الضخم، الذي استثمرت فيه ميزانية تجاوزت 4.41 مليار درهم، لم ينقذ النشاط الفلاحي فحسب، بل صار ضمانة لتزويد أكادير الكبير وكافة جماعات اشتوكة آيت باها بالماء، ويخفف الضغط الهائل على الفرشة المائية المهددة بالتوغل البحري. يستفيد منها نحو 15,000 هكتار في سهل اشتوكة و1500 ضيعة فلاحية، مع خطط لتعميم المياه المعالجة على بيوكرى، سيدي بيبي، أيت اعميرة، إنشادن، بلفاع، ماسة، وسيدي وساي.
دعم الصناعة الوطنية والطاقة النظيفة: شدد الخطاب الملكي على أهمية تطوير صناعة وطنية في مجال تحلية الماء، وتكوين المهندسين والتقنيين المتخصصين، وتشجيع المقاولات المغربية. كما أكد جلالته على ضرورة إنجاز مشاريع الطاقة المتجددة المرتبطة بمحطات التحلية، وتسريع مشروع الربط الكهربائي لنقل الطاقة النظيفة من الأقاليم الجنوبية، لضمان استدامة هذه المحطات.
2. تقوية البنية التحتية وشبكات التوزيع: استثمارات متواصلة
تجاوزت الاستثمارات في قطاع الماء الشروب 800 مليون درهم في السنوات الأخيرة، وتركز هذه المشاريع على:

توسعة محطة معالجة المياه بسد أهل سوس: تم تعزيز قدرتها الإنتاجية من 40 لترًا إلى 80 لترًا في الثانية، مما يؤمن تزويد مدينة آيت باها والجماعات المحيطة بها كـ هلالة وتسكدلت.
ربط المناطق الجبلية والسهلية: يجري العمل على ربط جماعات المنطقة الجبلية (هلالة، تسكدلت، سيدي عبد الله البوشواري، تركانتوشكا، أوكنز) بسدي أهل سوس ويوسف بن تاشفين. أما المناطق السهلية (بيوكرى، أيت عميرة، سيدي بيبي) فستستفيد من مياه التحلية. هذه المشاريع قيد التنفيذ ومن المتوقع أن تنتهي قبل نهاية العام الحالي.
مشاريع الربط المائي الجديدة: تشمل مشروع ربط مائي استراتيجي لتزويد جماعة إمي مقورن من بئر عميق، بالإضافة إلى قناة تربط بين بيوكرى وإمي مقورن، بتمويل قدره 30 مليون درهم كدفعة أولى في يناير 2025. هذه المشاريع تعزز مرونة الشبكة وتضمن وصول الماء بشكل أفضل.
التدخلات الاستعجالية والإدارة الاستباقية: تنفيذ التوجيهات الملكية
إلى جانب المشاريع الكبرى، تتواصل التدخلات الاستعجالية لمواجهة النقص الحالي، تنفيذاً للتوجيهات الملكية السامية باتخاذ “جميع الإجراءات الاستعجالية والمبتكرة لتجنب الخصاص في الماء”:

حفر وتجهيز آبار جديدة: قام المكتب الوطني للكهرباء والماء الصالح للشرب، بالتنسيق مع وكالة الحوض المائي لسوس ماسة، بحفر وتجهيز أكثر من 18 ثقبًا استكشافيًا لتعزيز الإنتاج المحلي للماء، خاصة في المناطق الجبلية.
توفير الصهاريج المتنقلة: توفر عمالة الإقليم شاحنات صهريجية لإمداد الساكنة الجبلية بالماء، خاصة في المناطق النائية التي تعاني من انقطاعات متكررة (مثل دوار تدارت بسيدي بيبي عام 2025 وفي بيوكرى عامي 2021 و 2023). هذا الحل، رغم كونه “ترقيعيًا” في نظر الساكنة، يظل ضرورياً في ظل الخصاص الحاد.

تحديات مستمرة وآفاق مستقبلية: دعوة ملكية للحزم والابتكار
على الرغم من التقدم المحرز والمشاريع الطموحة، لا تزال التحديات قائمة وتتطلب مقاربة شمولية وحزماً، كما أكد جلالة الملك: “لا مجال لأي تهاون أو تأخير، أو سوء تدبير، في قضية مصيرية كالماء”.

تسريع تنفيذ المشاريع التقنية: يجب الإسراع في إنجاز وتفعيل المشاريع المعقدة، فالتأخير في ربط بعض الجماعات بماء التحلية رغم توفر الاتفاقيات (مثل انشادن) يظل عائقاً.
محاربة هدر المياه وسوء الاستعمال: أشار جلالة الملك إلى أنه “لا يعقل أن يتم صرف عشرات المليارات لتعبئة الموارد المائية، وفي المقابل تتواصل مظاهر تبذيرها وسوء استعمالها”. وهذا يتطلب “المزيد من الحزم في حماية الملك العام المائي، وتفعيل شرطة الماء، والحد من ظاهرة الاستغلال المفرط والضخ العشوائي للمياه”.
التنسيق بين السياسات المائية والفلاحية: دعا جلالة الملك إلى “المزيد من التنسيق والانسجام بين السياسة المائية والسياسة الفلاحية، لاسيما في فترات الخصاص، مع العمل على تعميم الري بالتنقيط”. فالزراعات المستنزفة للمياه في اشتوكة لا تزال تستنزف الفرشة المائية دون رقابة كافية، مما يجعل “تصدير الخضر” بمثابة “تصدير للماء”.
معالجة وإعادة استعمال المياه: وجه جلالته إلى “اعتماد برنامج أكثر طموحاً في مجال معالجة المياه، وإعادة استعمالها كمصدر مهم لتغطية حاجيات السقي والصناعة وغيرها”.
الابتكار والتكنولوجيا: أكد جلالته على “ضرورة تشجيع الابتكار، واستثمار ما تتيحه التكنولوجيات الجديدة في مجال تدبير الماء”.
التغطية الشاملة للمناطق النائية: لا تزال بعض المناطق الجبلية والنائية، مثل توسوس وتقسبيت ببلفاع، تعاني من نضوب كلي للفرشة المائية وتعتمد بشكل كبير على الصهاريج، مما يؤكد ضرورة ضمان شمولية الخدمة بعيداً عن أي اعتبارات.
 التزام ملكي نحو الأمن المائي
إن أزمة الماء بإقليم اشتوكة آيت باها، بتعقيداتها وتداعياتها، هي جزء لا يتجزأ من التحدي المائي الوطني الذي أشار إليه جلالة الملك بوضوح. قصة هذا الإقليم، من جفاف الآبار وتراجع السدود إلى آمال التحلية والمشاريع الضخمة، هي شهادة على مرونة المنطقة وسعيها الحثيث لتأمين مستقبل مائي آمن ومستدام، يضمن الحياة والازدهار لساكنتها. التوجيهات الملكية الأخيرة تضع خريطة طريق واضحة وحازمة، تتطلب الإسراع في الإنجاز، ومحاربة التبذير، والتنسيق الفعال، وتشجيع الابتكار، لضمان الماء الشروب لجميع المواطنين وتأمين احتياجات السقي، حتى تصبح اشتوكة آيت باها نموذجاً في التدبير المستدام للموارد المائية.

الإدارة الاستباقية والتنسيق: تفعيل الحلول الملكية بتعاون موسع
تتسم الإدارة الحالية لأزمة الماء في إقليم اشتوكة آيت باها بمقاربة استباقية وتنسيق مستمر، تجسيداً للتوجيهات الملكية السامية. وفي هذا الإطار، سيعقد السيد محمد سالم الصبتي، العامل الجديد لإقليم اشتوكة آيت باها، غداً الخميس 19 يونيو 2025 اجتماعاً موسعاً مع رؤساء الجماعات الترابية وجميع الفاعلين في الميدان. يهدف هذا اللقاء إلى تسريع وتيرة إنجاز المشاريع المائية، ووضع تصور شامل يضمن تأمين الماء الصالح للشرب، مع التشديد على ضرورة ترشيد الاستهلاك والحفاظ على الموارد المائية، وإدماج المزيد من الجماعات، خاصة الجبلية منها، في منظومة مياه التحلية.

 

A.Boutbaoucht

 

 

 

 

الأخبار ذات الصلة

1 من 1٬349

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *