المعارضة في المغرب: هل انتهى عصرها الذهبي؟

بدأت بالفعل “التسخينات” والاستعدادات لانتخابات 2026، التي سيُطلق على الفائز باستحقاقاتها لقب “حكومة المونديال”. تشير الإشارات الأولية إلى أن الصراع قد احتدم مبكرًا بين حلفاء اليوم المشكلين للحكومة. وقد تجلى ذلك بوضوح في تصريح الأمين العام لحزب الاستقلال مؤخرًا، حيث هاجم الحكومة التي يشارك حزبه فيها خلال مهرجان خطابي بآسفي. المثير للدهشة هو صمت أحزاب المعارضة، التي لم تُظهر أي برنامج نضالي أو شعار للمرحلة المقبلة، رغم تعدد مشاربها. يبدو الحال وكأنها تسلمت بالأمر الواقع، مفترضة أن لا حظ لها في الاستحقاقات الانتخابية القادمة. فهل هذا يعني نهاية المعارضة في المغرب؟ هذا هو التساؤل المحوري الذي يحاول هذا المقال الإجابة عنه.
تاريخ المعارضة في المغرب: من الحركة الوطنية إلى “الكتلة الديمقراطية”
نشأ الوعي الوطني والمعارضة في المغرب منذ فرض الحمايتين الفرنسية والإسبانية، حيث شكلت الحركة الوطنية قوة معارضة لمشاريع الاستعمار. بعد الاستقلال، استمر النسق السياسي خلال مرحلة الملكين محمد الخامس والحسن الثاني قائمًا على وجود معارضة قوية ومنسجمة في مقابل حكومة تعاني من مشاكل داخلية.
يُعد حزب الشورى والاستقلال أول حزب حمل مشعل المعارضة في تاريخ المغرب المستقل، فبعد مشاركته في أول حكومة، اختار الانتقال إلى صفوف المعارضة. تلاه تأسيس حزب الحركة الشعبية عام 1957، الذي وُجد أساسًا ليلعب دور المعارضة وأداه بامتياز لفترة من الزمن، قبل أن يتحول للمشاركة في الحكومات المتعاقبة، ولم يعد إلى المعارضة إلا مع الحكومة الحالية.
العصر الذهبي للمعارضة كان بلا شك خلال مرحلة حكم الحسن الثاني، التي عرفت أيضًا بـ”سنوات الرصاص”. شهدت هذه الفترة تحالفات بارزة بين أحزاب المعارضة، أبرزها تأسيس “الكتلة الوطنية” في 22 يوليو 1970، من طرف زعيمي حزب الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية (علال الفاسي وعبد الله إبراهيم). تزامن هذا التحالف مع إعلان الملك الحسن الثاني عن استفتاء دستوري في 24 يوليو 1970، فاستغل الحزبان الفرصة للتصويت بـ”لا” على الدستور الجديد، مبرزين قوة معارضتهما.
لم يكن ما حدث عام 1970 حدثًا استثنائيًا. فبعد 22 عامًا، كانت الساحة السياسية على موعد مع تحرك أكبر. بمناسبة الاستفتاء الدستوري لسنة 1992، قامت المعارضة بحركة سياسية نشيطة لتقديم مقترحاتها حول الدستور الجديد ومدونة الانتخابات. توج هذا التنسيق بتأسيس “الكتلة الديمقراطية” في 17 مايو 1992، وشملت أحزاب الاتحاد الاشتراكي، الاستقلال، التقدم والاشتراكية، منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، وحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. رأت الكتلة أن إصلاح مدونة الانتخابات هو البوابة الحقيقية لتدشين المسلسل الديمقراطي، فسعت لوضع مقترح قانون ينظم الانتخابات الجماعية والتشريعية، مطالبة بتغيير طريقة انتخاب أعضاء البرلمان ورؤساء المجالس.
أدركت الكتلة صعوبة تمرير مقترح قانون تعديل مدونة الانتخابات داخل البرلمان، فبادرت إلى رفع مطالبها في مذكرات مباشرة إلى الملك. ورغم ذلك، قامت الأحزاب المشكلة للحكومة بتمرير مشروع قانون الانتخابات بأغلبيتها البرلمانية دون الأخذ بمقترحات المعارضة. يُحسب للكتلة الديمقراطية نضالها خلال مرحلتين دستوريتين (1992 و1996)، ثم انتقالها من صفوف المعارضة إلى كراسي الحكم بعد فوز الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بالانتخابات التشريعية عام 1997. سجلت هذه الفترة انفتاحًا سياسيًا نسبيًا، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وعودة المنفيين، وتدشين حكومة التناوب بقيادة الراحل عبد الرحمن اليوسفي. كانت هذه السنة حدثًا بارزًا ولحظة فارقة، حيث تولى أقوى حزب معارض مسؤولية قيادة الحكومة.
المعارضة في عهد جلالة الملك محمد السادس: غياب الدور أم تحول في المشهد؟
مع بداية حكم جلالة الملك محمد السادس، انتهى “عصر الإيديولوجيات” بشكل كبير. لم تعد الأحزاب السياسية تملك إيديولوجية معينة يمكنها من خلالها إقناع المغاربة بحلول لمشاكلهم. قبل دستور 2011، لم يستطع أي حزب إقناع المغاربة بمشروعه الفكري والإصلاحي سوى حزب العدالة والتنمية، الذي أصبح رمزًا للمعارضة حاملاً مشروعًا إسلاميًا. بعد دستور 2011، حملته صناديق الاقتراع إلى رئاسة الحكومة بزعامة عبد الإله بن كيران.
لكن المشهد تغير منذ تلك اللحظة وإلى اليوم. ففي ثلاث حكومات متتالية منذ الدستور الجديد، لم يتمكن أي حزب معارض من الفوز بالانتخابات التشريعية وقيادة الحكومة، على عكس ما يحدث في العديد من الدول، خاصة في أوروبا. في انتخابات 2017، كرر حزب العدالة والتنمية اكتساحه لمقاعد البرلمان، أما انتخابات 2021، فقد حملت حزبًا كان مشاركًا في الحكومتين السابقتين (التجمع الوطني للأحرار).
بعد انتخابات 8 شتنبر 2021 وتشكيل الحكومة الجديدة، وقعت أحزاب التحالف الحكومي في 6 دجنبر من نفس السنة على “ميثاق الأغلبية”. هذا الميثاق كان بمثابة إطار مؤسساتي ومرجع يحدد أساليب الاشتغال والتعاون بين مختلف المؤسسات الحكومية والبرلمانية والحزبية. نص الميثاق على استثمار أمثل ومسؤول للزمن السياسي والحكومي والتشريعي للقيام بكل الإصلاحات والأولويات الملحة، وتنفيذ الأوراش التنموية والاقتصادية الكبرى. وضعت الأغلبية ضمن ميثاقها عشرة أهداف قالت إنها ستعمل على تحقيقها بهدف مواصلة بناء أسس الدولة الاجتماعية، ووضع لبنات اقتصاد قوي، وذلك من خلال الرفع من وتيرة النمو ليصل إلى 4% خلال الخمس سنوات المقبلة، وإحداث مليون منصب شغل صاف خلال هذه الولاية الحكومية.
في الاتجاه المعاكس، لم تقابل هذه الخطوة أي مبادرة تذكر من أحزاب المعارضة، حيث كان هناك تنافر واضح بينها. على مدار أربع سنوات كاملة، لم نلاحظ أي محاولة جادة للتنسيق بينها وإن حصلت فهي محدودة. كل ما شهدناه كان مؤتمرات داخلية لأحزاب المعارضة بغرض النقد الذاتي وإعطاء نفس جديد عن طريق انتخاب زعماء شباب لمواكبة المرحلة الجديدة. إلا أن المفاجأة كانت أن هذه الأحزاب سارت على نسق واحد، وهو تجديد الثقة في زعاماتها السابقة. فقد أعيد انتخاب محمد نبيل بنعبد الله أمينًا عامًا لحزب التقدم والاشتراكية، وتم تعديل القانون الداخلي لحزب الاتحاد الاشتراكي لمنح إدريس لشكر ولاية ثالثة، وهو ما حصل بالفعل. أما حزب العدالة والتنمية، فما زالت فكرة الزعيم ترافقه، حيث أعاد عبد الإله بن كيران إلى زعامة الحزب. وفيما يتعلق بالوافد الجديد على المعارضة، جرى انتخاب محمد أوزين أمينًا عامًا لحزب الحركة الشعبية، من أجل لعب دور المعارضة، لكن لم يظهر منه شيء يذكر حتى الآن سوى بعض الخرجات الإعلامية.
يمكن القول إن المعارضة خلال هذه الحكومة كانت غائبة تمامًا عن القيام بدورها. فهل يعني هذا نهاية لعبة المعارضة والحكومة داخل البرلمان؟ يبدو أن الوضع يتجه في هذا المسار. على عكس عدة دول تستمر فيها لعبة اليمين واليسار، حيث يحكم اتجاه لولاية ثم يصعد الاتجاه الآخر، انتهت الإيديولوجيات في المغرب – كما ذكرنا – وكان آخر اتجاه هو الإسلامي. غير أن إمارة المؤمنين في المغرب تمنع أي حزب من “لبس جلباب الدين” واحتكاره.
“جمود المعارضة” و”أحلام القيادة”
لخصت إحدى الجرائد قبل أشهر الوضع الحالي للمعارضة بقولها: “في سياق سياسي عادي مثل الذي يعيشه المغرب، يُفترض أن تكون الانتخابات محطة لمحاسبة الحكومة ومكوناتها على الحصيلة التي حققتها خلال سنوات التدبير، والتي من الطبيعي أن تمزج بين الفشل والنجاح. وهو الأمر الذي يمثل حافزًا للمعارضة للتركيز على الهفوات والإخفاقات في محاولة لتأليب الرأي العام على الأحزاب المسيرة تمهيدًا لإسقاطها في الاختبار الانتخابي. لا شيء من هذا أو ذاك حاصل حتى الآن، فقط أحزاب التحالف الحكومي بدأت عمليات الإحماء المبكرة استعدادًا لخوض المواجهة الانتخابية، في الوقت الذي ما زالت فيه غالبية أحزاب المعارضة تحاول لملمة صفوفها وترتيب بيوتها الداخلية، وهي إشارة إلى أنها ستبدأ السباق متخلفة عن المنافسين الثلاثة بخطوة على الأقل، ما يجعل الانطباع السائد لدى الرأي العام هو أنها سلمت بـ’الهزيمة’ قبل بداية المعركة.”

مؤخرًا، صرح عبد الإله بن كيران، الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، بأن “أي حزب سياسي في المغرب لا يحاول الظفر بالمرتبة الأولى، لا يستحق العمل السياسي في البلد”، مضيفًا “إذا لم تكن أنت الأول، لن تستطيع القيام بشيء.” وتابع بن كيران كلامه معلقًا على التنافس الانتخابي المبكر، بأن حزبه من الممكن أن يحصد المرتبة الأولى في الانتخابات القادمة، على اعتبار أنه كما سقط من 125 مقعدًا برلمانيًا إلى 13 مقعدًا، فبإمكانه أن يقفز من 13 إلى 100 ويعيد تصدر المشهد السياسي من جديد، دون أن يقدم أي خطة عمل واضحة أو يطلق الحزب أي حملة مبكرة. وعلى غراره، صرحت عدة قيادات يسارية بأن الساحة الأوروبية شهدت صعود اليسار الذي قضى على طموح اليمين المتطرف، كما حصل في فرنسا، واعتبر بعض المناضلين اليساريين أن من شأن ذلك أن يساعد اليسار على تصدر المشهد السياسي في المغرب.
ورغم هذه التصريحات، فإن الأمر يتعلق بمجرد أحلام، سواء من الإسلاميين أو اليساريين. المشكلة الكبرى تبقى هي فراغ المشهد السياسي. وكما هو معلوم، فإن الطبيعة تمقت الفراغ. هناك نظريات سياسية تقول إن النظام في المغرب يقدم خلال الأزمات والهزات الاجتماعية على التحالف مع قوى المعارضة التي تحظى بدعم شعبي كبير. فأين هي قوى المعارضة الآن التي تحظى بهذا الدعم الشعبي الكبير؟ وهل هناك ضرورة للالتفاف وتقوية المعارضة، أم أن هناك تحولات قادمة لم يتم استيعابها تقوم على أغلبية قوية في مواجهة معارضة ضعيفة؟

الأخبار ذات الصلة

1 من 1٬335

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *