تفجر في الأسابيع الأخيرة نقاش محتدم داخل الجسم الصحافي، سرعان ما كانت له امتدادات سياسية ومدنية وقانونية، وقد ابتدأ ذلك النقاش منذ التمديد للمجلس الوطني للصحافة، ولم ينته بمشروع القانون الخاص بتشكيل لجنة مؤقتة تقوم مقام المجلس الوطني للصحافة، إلى حين إيجاد صيغة لانتخاب أعضائه.
ومع تسليمنا بأن أي نقاش، بغض النظر عن منطلقات ورهانات الخائضين فيه، يبقى نقاشا صحيا، إلا أننا نطرح سؤالا تأسيسيا ملحا: هل نمتلك تصورا للصحافة التي نريد؟
ذلك أن ما تبدى على السطح هو صراعات وتدافعا حول نقطتين فقط: الدعم والتمثيلية.
وفي غمرة نقاشات الدعم والتمثيلية لم ننتبه إلى أن ثمة أحداثا ووقائع كانت تبين أن إعلامنا بشقيه الرسمي والخاص عاجزان عن أداء المهام المنتظرة منه.
كان الإعلام الوطني غائبا عن النقاش العمومي حول قضايا مختلفة، وذات راهنية، وقد تبين أن وسائط التواصل الاجتماعي، ومنصات وشبكات البث الرقمي قد سحبت البساط من تحت قدمي الإعلام الرسمي والخاص، وأن الفاعلين في هاته الوسائط باتوا يوما بعد آخر أكثر قدرة على التأثير في الرأي العام وتوجيهه.
قد يقول قائل بأن هذا هو السائد كونيا، بدليل أن الكثير من وسائل الإعلام المكتوبة تخلت عن النسخ الورقية، وهجرت نحو وسائط التواصل الاجتماعي، لكن الفرق هو أن الأسماء الكلاسيكية الكبرى للصحافة العالمية حين أحدثت صفحات لها في وسائط التواصل الاجتماعي كانت بغرض عرض منتوجها الرقمي المكتوب والمصور وحتى الإذاعي، ولذلك فإن أعداد المشتركين في صفحاتها، والمطلعين على موادها تبين أنها لا زالت صانعة للرأي العام، وأن الثقة فيها لم تنقص، وأنها ما زالت المصدر الأساس للمعلومة.
أما إذا انتقلنا إلى مستوى آخر أعلى، مرتبط بصورة المغرب، وبالمناورات التي تحاك ضده، والتي يتم فيها توظيف منصات إعلامية قوية، برهانات جيواستراتيجية خطيرة، فإن المشهد يصبح أكثر كارثية.
ذلك أن الإعلام الرسمي عجز عن خلق ولو قناة فضائية واحدة، قادرة على أن يكون لها تأثير في محيطها الإقليمي أو القاري، أما الإعلام الخاص فقد استكان إلى حروب داخلية صغيرة، أو محاولة جذب “زبناء” في سباق اللايكات والمشاهدات، ولو بالتبئير على ملفات مطبوعة بالإثارة، والتي للأسف تعيد إنتاج نفس الكليشيهات التي يتم إلصاقها باطلا ببلدنا: الدعارة والسحر والمخدرات….
ولذلك يصح أن نطرح سؤالا آخر، قد يبدو مستفزا: هل أدت سياسة الدعم العمومي للمقاولات الصحافية الأدوار المطلوبة منها؟ هل استطعنا بعد سنوات من إقرار الدعم خلق قطاع إعلامي مواطن، ومهني، ومحترف، وذا تأثير على الرأي العام، ومنشط للنقاش العمومي؟
هل استطاعت حروب التمثيلية أن تفرز لنا نخبة إعلامية قادرة على الارتقاء بالمنتوج الوطني نحو استعادة ثقة المواطنين به من جهة، ومن جهة أخرى الدفاع عن مصالح وصورة البلاد خارجيا ؟.
لا يختلف إثنان حول أن الأمن أصبح من المفردات الأساسية للسيادة الوطنية لأي بلد يسعى نحو أن يجد له موطئ قدم في ظل وضع دولي مطبوع بالتوترات والمؤامرات وتغير طبيعة التحالفات ورهاناتها.
وقد حققت بلادنا مكتسبات كثيرة على هذا المستوى، سواء على مستوى الأمن الروحي، بحيث أضحت بلادنا مرجعا في تدبير الحقل الديني والروحي، أو على مستوى الأمن التقليدي بحيث لا يمكن إلا لجاحد أن ينكر مكاسب المغرب على مستوى مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، أو على مستوى الأمن الغذائي الذي جنب بلادنا الكثير من الخسائر التي لحقت بلدانا كثيرة جراء اضطراب سلاسل الإنتاج والتوريد، وحتى على مستوى الأمن الطاقي، ورغم أن بلادنا فقيرة على مستوى الطاقات الأحفورية، فإنها استطاعت وفي أحلك الظروف تأمين مخزون كاف لاحتياجات الأفراد والصناعة وغيرها، بل وخطت خطوات كبيرة على درب الطاقات البديلة الصديقة للبيئة.
لكننا نعاني من ثغرة كبيرة على مستوى الأمن الإعلامي، بحيث يهاجر المواطنون نحو الإعلام الخارجي بكثافة، وأحيانا لمتابعة شأنهم المحلي، أو يرحلون صوب وسائط التواصل الاجتماعي، التي رغم انها توفر مساحات مهمة من الحرية، إلا أنها تعج كذلك بإمكانات ضخمة للتضليل والتشويش.
إن ما يحققه المغرب من منجزات على مستوى التنمية، أو على مستوى حسم ملف الوحدة الترابية، أو على مستوى الاستقرار في محيط مطبوع بالحروب والنزاعات، لا يتم استثماره وتسويقه إعلاميا، إذ ثمة فرق شاسع بين التطور الذي وصلته بلادنا رغم الأعطاب التي لا يمكن إنكارها، والتي تنبه لها بجرأة حتى أعلى سلطة في البلد، وبين صورة البلد في الإعلام الدولي، وحتى في المتخيل عند الرأي العام العالمي، الذي لا زال جزء كبير منه متأثرا بالخلفيات الاستشراقية.
ولذلك نحتاج لنقاش وطني صريح حول الاستراتيجية الإعلامية التي نحتاجها، تبعا لرهانات الدولة المغربية الساعية لأن تكون قوة إقليمية صاعدة، وكل قوة إقليمية صاعدة محتاجة لأذرع إعلامية قوية.
وهو نقاش تتفرع عنه نقاشات ذات راهنية، من قبيل: ما المحتوى الذي يجب أن يسود في سماء الإعلام الوطني كما وكيفا؟ ما مواصفات النخب الإعلامية التي يجب أن تقود المرحلة الانتقالية؟ كيف نجود من مستوى التكوين الأساس والمستمر في مهن الإعلام والاتصال؟
وأعتقد أن الإجابة على هذه الأسئلة الكبرى، ستكون مدخلا لحل مشاكل الدعم والتمثيلية، إذ لا يمكن الاستمرار في سياسة دعم لم تؤدي المأمول منها، وكانت مدخلا لاغتناء مقاولين عوض تحسين العرض الإعلامي، كما لا يمكن الاستمرار في حروب التمثيلية دون أي مشاريع واضحة يتم المفاضلة بينها.
ومع هذه الأسئلة، سيكون لزاما فتح ملف الإعلام العمومي الذي تراجع النقاش حوله، مع ارتفاع نبرة الأصوات حول الدعم والتمثيلية.
ذلك أنه حتى في الدول المتقدمة والتي اختارت النيوليبيرالية واقتصاد السوق، لا زال الإعلام العمومي يحافظ على موقع الريادة في توجيه النقاش العمومي، وفي اعتباره المصدر الأكثر ثقة من طرف المواطنين عند تضارب المعطيات.
لا يجب أن يفهم مما سبق بأن الأمر متعلق بنوع من السوداوية، بل بالعكس، فبعد سنوات من الممارسة المهنية والنقابية، أصبحت أكثر اقتناعا بأن المشهد الصحافي الوطني يعج بطاقات كبيرة يمكنها ان تحل الكثير من المشاكل، بل وأن تشكل بدائل للسائد، بدليل أن أصواتنا المهاجرة نحو فضاءات إعلامية خارجية تبلي البلاء الحسن، ولكن العطب يكمن في عدم امتلاك نموذج إعلامي وطني مرجعي، باستراتيجية واضحة، وبضعف الحكامة في مؤسسات الإعلام العمومي التي من المفترض أن تكون القاطرة التي تقود الصحافة الوطنية، وفي مقاولات إعلامية لم يعد يهم أغلبها إلا الربح السريع والريع، وفي الحروب الصغيرة حول التمثيلية في غياب مشاريع واضحة قد تبرر هذه الحروب، وأخيرا في ضعف المحاسبة والرقابة، فمن يتستطيع الجواب بصدق على هذا السؤال: ماذا قدم من يخوضون الحروب اليوم، ومن استفادوا من المال العام لتجويد الإعلام الوطني، وللدفاع عن صورة المغرب ومصالحه ومنافسة الإعلام الأجنبي، خصوصا الذي يسيئ لبلادنا؟