بقلم: محمد امنون
يشير الأستاذ جون راولز، في كتابه “نظرية العدالة” عام 1971، أن العدالة الاجتماعية لا تتحقق إلا باحترام ثلاث مبادئ أساسية من بينها: ضمان المساواة وتكافؤ الفرص بين المواطنين”.
وهو ما أكده جلالة الملك حفظه الله في خطابه السامي أمام أعضاء مجلسي البرلمان بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الثالثة من الولاية التشريعية العاشرة، حينما قال:” …أن المغرب يجب أن يكون بلدا للفرص، لا بلدا للانتهازيين. وأي مواطن، كيفما كان، ينبغي أن توفر له نفس الحظوظ، لخدمة بلاده، وأن يستفيد على قدم المساواة مع جميع المغاربة، من خيراته، ومن فرص النمو والارتقاء “.
الا ان واقع الحال يخالف المحجة البيضاء التي ما فتئ يدعو إليها العاهل الكريم منذ توليه عرش أسلافه المنعمين. فبمدينة انزكان وبسبب بعض المسؤولين ” غير المسؤولين ” المنتخبين والمعينين أصبحنا نميز، بين ثلاث فئات من المواطنين: فئة صحاب الشكارة او ما يسمى في بعض ادبيات وسائل التواصل الاجتماعي ” لوبيات العقار والصفقات الكبرى”، وفئة من “صحاب الصنطيحة” محترفي الهموز والريع وشعارهم ” نريد ان نستفيد”، وبين هاتين الفئتين نجد المواطن الانزكاني الأصيل البسيط والمغلوب عن امره” الدي اختار لنفسه ان يكون مجرد متفرج وفي احسن الأحول كومبارس” يشاهد مدينته ورصيدها يوزع بمنطق الكعكعة والغنيمة على فئتين رأسمالهم ” السلطة و السنطيحة”، تحث ذرائع واهية تتراوح ” بين الاستثمار من جهة ، و معالجة الأوضاع الاجتماعية للفئات الهشة من جهة أخرى”.
وفي خضم هذا الوضع الدي اسسه وخلقه وشرعنه في الدرجة الأولى صمت الشرفاء والايادي النظيفة بالمدينة التي اختارت زاوية “سبق الميم ترتاح”، وهو ما استغله “صحاب السنطيحة والسلطة”، ليتمكنوا من المؤسسات المنتخبة بالمدينة، بعد تواطؤ “بعض المعينين”، ومن ثم خلق فضاء مناسب لكل ممارسات الريع والمحسوبية والزابونية ضدا في كل مضامين الدستور وكل الخطابات والتوجيهات الملكية السامية.
وفي ضل هذا التمكن من “المؤسسات المنتخبة”، وتواطؤ “بعض المعينين” ثم خلق الكثير من ابواب التمكين للوضع غير السليم، على راس هذه الأبواب، باب العمل الجمعوي والنقابي والحقوقي.
ان العمل النقابي و الحقوقي في انزكان ما بعد الوثيقة الدستورية الجديدية وجائحة كورونا التي لا شك خلخلة كل الأفكار السابقة التي كانت تحكم عملية العمل الجمعوي بصفة عامة، يجب ان ينطلق من ثقافة مؤمنة بحتمية المعركة والمواجهة مع كلّ أساليب الغش والخداع القديم من اجل استدامة توزيع رصيد المدينة بمنطق الغنيمة، والانتقال بالعمل الحقوقي و النقابي من شكله الريعي التدليسيّ التقليديّ المحاصر والمؤطر من جهة بحسابات انتهازية شخصية لاعقلانية ومن جهة أخرى بمحددات ثلاث وهي: الاستثمار كغطاء/الغنيمة كمحرك/الفئات الهشة كاطار، إلى ممارسة نقابية وحقوقية حديثة قوية، ديمقراطية، شفافة، ونزيهة، وقادرة على الترافع عن هموم المجتمع…وهذا هو عين المعركة من اجل تحرير العقل الجمعي بالمدينة من هذه الحسابات والمؤطرات و المحددات اللاعقلانية، وهو امر لا يمكن ان يثم الا بتعرية كل الأفكار التي كانت تؤطر العمل المدني بالمدينة مند تجربة خلق اول مرفق تجاري بها، بمنطق” التوزيع والاحتلالات المؤقتة”، والكشف عن المرتكزات الانتهازية الاقتصادية و الانتخابية…ثم تعريتها، وهي لا شك معركة تلك الفئة الصامتة و الايادي النظيفة التي يجب عليها الخروج من قاعة الانتظار و مرحلة الصمت لمعركة بناء عقل جمعوي و حقوقي ونقابي وسياسي جديد، ديمقراطي ووطني نزيه وخدوم…في افق وضع مدينتهم في سكة التنمية الحقيقية والمستدامة بقواعد سليمة بعد تجاوز المحددات والقواعد التقليدية التي رسخت للفساد و الفقر والبطالة…
وهي معركة لن تتأتى الا مع المثقّف صاحب الضمير العلمي الحيّ والواعي بأهمية مناهضة الوعي الزائف والمستلب الذي تعمل كائنات “صحاب السنطيحة والسلطة” الانتهازية الريعية(مبدعة خطط الاستثمار في الترهيب والجهل والفقر والهشاشة وادلال الساكنة)المتحكمة على تعميمه وسط المجتمع…فما على المثقف الانزكاني صاحب الضمير الحر الا ان ينطلق ليعيد بناء الثقافة كما الهوية الاصيلة للمدينة من جديد انسجاما مع المتغيّرات والتجارب الإنسانيّة بصورة أشمل وأعم وبعيدا عن تأثيرات الجهل المقدس والرغبة الانتهازية الاستغلالية لبعض الطيور المهاجرة ومن يسير في سربها.
ان الدور الدي يمكن ان يلعبه المثقف الحر صاحب الضمير الحر –وليس الانتهازي- لا يمكن فهمه الا من خلال قدرته على خلق مساحات الوعي والمساهمة في التأثير المجتمعيّ عبر الإبداعات المختلفة. ولعل الفعل الثقافيّ القادر على إحداث الاهتزازات الممكنة في بحيرة الركود الفكريّ والاجتماعيّ والسياسيّ وحتى الاقتصادي هو الفعل القادر على الانتقال إلى حالة التفاعل الغنيّ بالمعرفة والمساهم في بلورة مفاهيم تكافؤ الفرص وسواسية الناس والحق والحريّة والتنمية.
فتعزيز هذه المفاهيم من خلال العمل الميداني الإبداعيّ يوفر منصّات ضروريّة لنقاش القضايا التي تمس نبض الحياة اليوميّ ويساهم في جعل الفعل الثقافيّ حالة مستمرة لمعالجة ومواجهة الأزمات الفكريّة والسياسيّة المتراكمة. لذا من المهم الإشارة إلى الخطورة في ظلّ اللحظة الراهنة ثقافياً –المشروع التنموي الجديد ما بعد كورونا- في تحوّل الدور المنوط بالعمل الثقافيّ من حالة مؤثرة ومساهمة في الفعل اليوميّ والوعي الجمعيّ إلى حالة جماليّة غير مؤثرة أو محدودة التأثير…أو بمعنى آخر تكمن الخطورة في التحوّل من المضمون إلى الشكل أو الاهتمام بالشكل الثقافيّ على حساب المضامين القادرة على تحفيز الفكر والنقد والحركة الثقافيّة ما قد يجعل الدور الثقافيّ في حالة تضاؤل وانكماش أمام تحدّيات السياسة والمجتمع والأيديولوجيا.
لهذا يصبح من الضروريّ الاهتمام بالسياسات الثقافيّة والحقوقية كمداخل أساسية نحو تطوير آليّات التفاعل المجتمعيّ وذلك عبر برامج ثقافيّة وفضاءات للحق والحرية تتيح المجال للأعمال الإبداعيّة في الوصول إلى الشرائح المجتمعيّة المختلفة بهدف تعزيز المشاركة والتفاعل الثقافيّ والاجتماعيّ أي نقاش حول الانزال السليم للمشروع التنموي الجديد…اما غير ذلك من أساليب الريع ومقاربات استفاد يريد ان يستفيد فذلك مجرد مضيعة للوقت و لا تعدو ان تكون سوى ممارسات انتهازية تغدى من أحاسيس الحكرة والتهميش والحرمان والظلم والغضب لدى كامل المجتمع أو شرائح معينة منه .
فالتنمية الحقيقية والمستدامة بمدينة انزكان لا يمكن ان تتحقق مع ممارسات ” الريع” ومقاربات ” استفاد يريد ان يستفيد ” والنهب العقاري والاقتصادي…
التنمية الحقيقية والمستدامة تتحقق بمحددات ربط المسؤولية بالمحاسبة…وتشجيع الابداع والعمل…واعتماد مقاربة تكافؤ الفرص وسواسية المواطنين…من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية والمساهمة في تقليص الهوة بين كافة أطياف المجتمع التي، بالمقابل، يسعى لا تكافؤ الفرص/اللامساواة وأساليب المحسوبية والزابونية وتهميش الفئات الاجتماعية المستضعفة في توسيعها. فمحاباة فئة “صحاب السنطيحة والسلطة” على حساب الفئة الصامتة الهشة والمسحوقة من “صحاب سبق الميم ترتاح” هو إنكار للعدالة وجور عظيم سيتجرع مرارته الجيل المعاصر والأجيال المقبلة.
إن أي استمرار في مقاربات الريع/استفاد يريد ان يستفيد، سيجعل من لا تكافؤ الفرص قاعدة عامة وسلوكا إداريا تقتدي به كافة القطاعات الأخرى في تأطير الاستفادة من رصيد المدينة. إن من شأن هذه الممارسة اللادستورية أن تؤدي إلى اختلال التوازن الاجتماعي وفقدان الثقة في نظم دواليب الإدارة ومؤسسات الدولة ويفقدها هيبتها واحترامها إن هي تمادت في ضلالها عن الصواب والحق، مما سيهدد، حتما، السلم الاجتماعي..
إن بناء دولة الحق يقتضي، كما أكدته الفقرة الثانية من الفصل 35 من دستور 29 يوليو 2011، أن “تسهر الدولة على ضمان تكافؤ الفرص للجميع”.”.
بدون أدنى شك، ستكون الأيام والسنوات المقبلة حافلة بصعوبات يتعذر على المسؤولين المعنيين بالمدينة” على الأقل دوي النيات الحسنة والضمير السليم” مواجهتها وبمتاهات يصعب الخروج منها إن لم يتم تدارك هذا المنزلق الخطير الذي يتنافى مع الأخلاق والقيم الدستورية للمملكة، فهل من معتبر؟