الفساد في القطاع الصحي الخاص يكشف اغتناء أرباب المصحات على حساب مشروع الحماية الاجتماعية

يؤثر الفساد في القطاع الصحي الخاص على المواطنين الذين يضطرون للاستجابة لشروط وبيروقراطية بعض المصحات الخاصة، التي تفرض عليهم الدفع قبل العلاج، أو تلجأ إلى أساليب غير قانونية، من بينها تقديم شيكات على سبيل الضمان، أو مبالغ مالية “كاش” ضمن “النوار” تقدر بالملايين حسب تكلفة العلاج، ما يجعل الكثير من المواطنين مستسلمين أمام طمع وجشع المصحات الخاصة التي تشتغل خارج القانون.

 

منذ إقرار مشروع الحماية الاجتماعية وتعميم التغطية الصحية، تكاثرت المصحات الخاصة بشكل كبير، بعدما أصبح القطاع الصحي الخاص هو المستفيد الأول بنسبة تصل لـ 90 في المائة من عائدات صناديق التأمين الصحي، ومن الزيادة في التعريفة المرجعية.. مقابل تراجع مستوى الخدمات الصحية في المستشفيات العمومية بشكل كبير، والتي تحولت إلى “مقابر” للمرضى، مما يوحي بأن الحكومة تتجه نحو إقبار القطاع العمومي مستقبلا.
في هذا السياق، أكد محمد بنعليلو، رئيس الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، أن الفساد في قطاع الصحة لا يمس فقط كفاءة الخدمات، بل يهدد الأمن الصحي الوطني، ويقوض ثقة المواطنين في المؤسسات العامة، موضحا أن الصحة تمثل مطلبا وانشغالا رئيسيين لنسبة معتبرة من المواطنين، وأن هذه المطالب تصطدم في كثير من الأحيان بعوائق الرشوة، وضعف الجودة، وتداخل المصالح، والتمييز الخفي في الولوج للعلاج..

وقال بنعليلو، في لقاء حول “مخاطر الفساد في قطاع الصحة، سلسلة القيمة الخاصة بالمنتجات الطبية والقطاع الطبي الخاص” بالرباط، أن هناك بعض الممارسات غير النزيهة، مثل الفوترة الوهمية الشائعة رغم الجهود المبذولة لمحاربتها، وأشار إلى أهمية معالجة “مسار المريض” باعتباره ركيزة أساسية لضمان العدالة الصحية، موضحا أن الحديث عن الفساد في قطاع الصحة ليس حديثا عن خلل جزئي أو عن مظاهر معزولة، بل هو نقاش عميق يتعلق بكيفية إدارة حياة الإنسان نفسها، كحق أساسي غير قابل للمساومة، فهو تجمع بين شروط ولادة صحية، وتنشئة سليمة تراعي حاجة الإنسان للدواء والرعاية الطبية، وحقه في العلاج بكرامة.

وأكد رئيس الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، أن الفساد الصحي ليس دائما نتيجة فردية لسوء السلوك، بل هو أيضا انعكاس لما تسميه منظمة الصحة العالمية بـ”هشاشة النظم”، بتجلياتها المعروفة المتمثلة في ضعف الحوكمة، وغياب الشفافية في تدبير المشتريات، وضعف آليات المراقبة، وأحيانا تضارب المصالح في التنظيم الصحي، داعيا كل المتدخلين والمعنيين، كل من جهته ومن زاويته، إلى إعادة قراءة الواقع الصحي في البلاد، ورصد ما ترسخ من ممارسات ماسة بشروط النزاهة، وتحديد مواطنها وما تقتضيه المعايير الدولية من تدخل لتداركها.

وأكد بنعليلو، أن الحل يكمن في العمل على مجالين مركزيين: أولهما يتعلق بسلسلة القيمة الخاصة بالأدوية والمنتجات الطبية، حيث تظل مخاطر التلاعب والتزوير والمحسوبية والفساد.. قائمة رغم كل المجهودات المبذولة لمحاربتها، وثانيهما يرتبط بالقطاع الصحي الخاص، الذي تطور بشكل كبير للغاية، غير أن بعض الثغرات التنظيمية، ومحدودية آليات المراقبة، خلقت بيئة مواتية أحيانا لنشوء بعض الممارسات غير النزيهة، مثل الفوترة الوهمية، والتدخلات غير الضرورية.. وأشار إلى أن تقديرات منظمة الشفافية الدولية تقول بأن 7 % من الإنفاق الصحي العالمي يُفقد بسبب الفساد، فيما تعد منظمة الصحة العالمية الفساد أحد “المخاطر النظامية” التي تعرقل تحقيق أهداف التنمية المستدامة في مجال الصحة، معتبرا أن ما تقوم به الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، لا يتعلق فقط ببناء خريطة لمخاطر الفساد، بل هو سعي نحو بناء مناعة مؤسساتية طويلة المدى.. فكما أن الجسد يواجه الفيروسات بمناعة بيولوجية، فإن النظام الصحي يجب أن يواجه الفساد بمناعة سياسية، مؤسساتية، تشاركية.

ذلك أن الاختلالات التي يعرفها القطاع الصحي الخاص واستمرار معاناة المواطنين داخل المنظومة، سواء العمومية أو الخاصة، يطرح الكثير من علامات الاستفهام حول دور الحكومة ووزارة الصحة، والمفتشية العامة للمالية، في تتبع ومراقبة الممارسات والتجاوزات التي تقوم بها المصحات الخاصة في القطاع، من خلال التعامل بما يسمى “النوار” وفرض الشيكات، والزيادة في تسعيرة الفحوصات والكشوفات، والتي قد تصل في بعض المصحات من 500 إلى ألفي درهم، بحيث تضطر الأسر للرضوخ لشروط إداراتها رغبة في علاج المريض.

وقد سبق لمجلس المنافسة أن اعتبر فرض “شيكات الضمان” ممارسة غير قانونية تتعارض مع حقوق المستهلك، وتُجبر المريض على توقيع شيك قبل معرفة التكلفة الفعلية للعلاج أو استلام أي عرض مالي مفصل، مسجلا ضعف المساهمات الجبائية للمصحات الخاصة، حيث بلغت مساهمات هذه المصحات عند متم سنة 2021 فقط 0.16 في المائة من الضريبة على الشركات، و0.36 في المائة من الضريبة على الدخل، و0.03 في المائة من الضريبة على القيمة المضافة، وبالموازاة مع ذلك، سجلت 49.6 في المائة من المصحات نتائج سلبية.

فقد كشفت دراسة حديثة حول المصحات الخاصة، أجراها مكتب دراسات “Affinytix”، أن 68 في المائة من زبناء المصحات الخاصة بالمغرب غير راضين عن الخدمات التي تقدمها المصحات، مشيرة إلى أن القطاع الصحي الخاص سجل نتيجة من بين الأكثر تدنيا من بين قطاعات عديدة شملتها دراسات مماثلة، مضيفة أن متوسط ​​الثقة لم يتجاوز 49.18 في المائة، وهو ما يمثل “انعدام ثقة هيكلي لدى المرضى تجاه المصحات الخاصة”، أما بخصوص الانطباع العام، فقد عبر 32 في المائة فقط من المرتفقين عن مواقف إيجابية، مقابل 68 في المائة أعربوا عن مشاعر سلبية.

ودعت نفس الدراسة إلى تعزيز الشفافية والتواصل من خلال إحداث بوابات آمنة داخل المؤسسات، وإنتاج تقارير واضحة لفائدة المرضى، وجعل خدمة الأسئلة الشائعة أكثر دينامية ومسايرة لأسئلة الزبون وانشغالاته، موصية بإضفاء الطابع الإنساني على كل تفاعل مع الزبناء، من خلال تكوين المستخدمين على الاستماع، وطقوس الترحيب، والمتابعة ما بعد الرعاية الصحية.

والملاحظ أنه رغم توجيهات وتحذيرات الوزارة الوصية للمصحات، من استعمال الشيكات كوسيلة ضغط على المرضى أو ذويهم، ما تزال بعض المصحات تلجأ إلى هذا الأسلوب، خصوصا في الحالات غير المؤمّنة، أو تلك التي لا تشملها التغطية الكاملة لصناديق الحماية الاجتماعية، مما يطرح تساؤلات حول تقاعس الوزارة في فرض الرقابة وآلية الردع والعقاب.

في هذا الإطار، وجهت البرلمانية سلوى البردعي، عن مجموعة العدالة والتنمية، سؤالا كتابيا إلى وزير الصحة والحماية الاجتماعية، أمين التهراوي، طالبت فيه بتوضيحات عاجلة بشأن استمرار هذه الممارسة التي تثير قلقا واسعا في الأوساط الحقوقية والطبية، مضيفة أن اشتراط شيك كضمانة مالية قبل تقديم العلاج، لاسيما في الحالات المستعجلة، يُعد سلوكا مجحفا ينتهك الحق الدستوري في الصحة، ويضع حياة المرضى في خطر، مشددة على أن هذه الممارسة لا تقتصر على الخدمات الاختيارية أو العلاجات غير الطارئة، بل تمتد إلى حالات تستوجب التدخل الطبي الفوري، ما يخلق وضعيات إنسانية حرجة قد تؤدي إلى مضاعفات صحية أو تأخر في الإنقاذ.

وأوضحت نفس البرلمانية، أن المصحات الخاصة تعتبر شريكا أساسيا في تقديم الخدمات الصحية للمواطنين، خاصة في ظل الإكراهات التي يعرفها القطاع العمومي، غير أن تحويل الرعاية الصحية إلى معادلة مالية خالصة، يضعف مبادئ العدالة والتكافؤ في الولوج إلى العلاج، ويقوض الثقة في المؤسسات الصحية الخاصة، مبرزة أن العديد من المواطنين يواجهون صعوبات كبيرة أثناء ولوجهم للعلاج في هذه المصحات، بسبب إلزامهم بتقديم شيكات كضمانة مالية قبل الشروع في تلقي العلاجات، حتى في الحالات المستعجلة.

واعتبرت البردعي، أن الشروط التي تفرضها المصحات الخاصة، تؤدي في بعض الأحيان إلى رفض استقبال المرضى أو تأخير التدخلات الطبية، مما يعرض حياة المرضى للخطر، متسائلة عن الإجراءات الملموسة التي تعتزم الوزارة الوصية اتخاذها لضمان ولوج المرضى للعلاج دون عراقيل مالية مسبقة، داعية إلى تفعيل المقتضيات الدستورية التي تكرس الحق في الصحة كأحد الحقوق الأساسية للمواطن.

ويرى العديد من المتتبعين، أن بيروقراطية المصحات الخاصة وتغولها في القطاع الصحي، وعدم احترامها للقوانين الجاري بها العمل، يطرح إشكالية غياب آليات المراقبة واتساع الهوة بين النصوص القانونية والممارسة الفعلية، وتسليع الخدمات الصحية، مما يتطلب تدخلا حازما لإعادة فرض القانون وضبط المجال بين الدولة والقطاع الخاص، والحد من تغول منطق الربح على حساب المشروع الملكي للحماية الاجتماعية.

الأسبوع

الأخبار ذات الصلة

1 من 45

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *