أعادت التساقطات المطرية الأخيرة، التي شهدتها عدة مناطق بالمملكة، فتح نقاش واسع حول جودة إنجاز مشاريع البنية التحتية ومدى احترام المعايير التقنية في الصفقات العمومية، بعدما سجلت أضرار متفاوتة طالت طرقاً وبنايات وتجهيزات حديثة العهد بالإنجاز. وفي هذا السياق، استنفر ولاة الجهات عمال العمالات والأقاليم الخاضعة لنفوذهم الترابي، من أجل تسريع عمل اللجان المحلية المكلفة بتدبير المخاطر المرتبطة بالأمطار، وإعداد تقارير حالة دقيقة حول وضعية الأوراش الجارية والمنتهية.
وحسب معطيات متطابقة، فإن هذه التحركات جاءت بناءً على مؤشرات مقلقة حول هشاشة بعض المنشآت التي لم تصمد أمام أمطار وُصفت، في عدد من المناطق، بالعادية، ما أثار شبهات قوية حول ضعف جودة الإنجاز، واحترام دفاتر التحملات، وطبيعة المواد المستعملة، خاصة في صفقات وُصفت بـ«الحديد الرقيق»، التي باتت محل تساؤل لدى المصالح الرقابية.
وشملت توجيهات ولاة جهات الدار البيضاء–سطات، ومراكش–آسفي، وبني ملال–خنيفرة، وفاس–مكناس، وطنجة–تطوان–الحسيمة، والجهة الشرقية، توسيع دائرة الافتحاص لتشمل أوراشاً حديثة العهد، سواء تلك التي لا تزال في طور الإنجاز أو التي تسلمت بشكل مؤقت أو نهائي. ويهدف هذا التوجه إلى رفع تقارير مفصلة إلى المصالح المركزية، من أجل تحديد المسؤوليات وترتيب الجزاءات المحتملة في حق مقاولين ومنتخبين تحوم حولهم شبهات اختلالات في تدبير الصفقات العمومية.
واعتمدت “لجان تدبير الأزمة” على مستوى العمالات، في عملها الميداني، على تقارير تتبع واردة عن رجال السلطة المحلية، من قياد وباشوات، مدعومة بمعطيات قدمها المقدمون والشيوخ، قصد توجيه عمليات التفقد نحو النقاط السوداء والبنيات التحتية الأكثر عرضة للاختلالات، خصوصاً الطرق والقناطر وأحواض تصريف المياه.
وفي تطور لافت، أفادت مصادر مطلعة أن لجاناً مركزية تابعة للمفتشية العامة للإدارة الترابية يُرتقب أن تحل بعدد من الجماعات والمقاطعات خلال الفترة المقبلة، على ضوء نتائج تقارير الحالة المرفوعة إلى المصالح الولائية. وستركز هذه اللجان على تدقيق محاضر تتبع الأشغال، ومحاضر التسلم المؤقت والنهائي، ومدى احترام المساطر القانونية والتنظيمية المؤطرة لطلبات العروض والصفقات العمومية.
ووفق المصادر نفسها، فإن مهام الافتحاص لن تقتصر على المشاريع الحديثة فقط، بل ستمتد إلى صفقات تعود إلى السنتين الماضيتين، وأخرى قريبة العهد، حيث سيعتمد المفتشون على شكايات وإخباريات توصلت بها الإدارة المركزية، تتحدث عن علاقات مشبوهة بين رؤساء جماعات وأرباب مقاولات، وعن صفقات “على المقاس” مقابل عمولات وامتيازات، أو تسهيل الحصول على طلبيات في مجالات أخرى عبر المقاولات ذاتها.
كما كشفت المعطيات المتوفرة عن تعرض بعض المقاولين لضغوط من طرف منتخبين، من أجل الدخول في عروض مشتركة مع شركات مملوكة لأقارب أو معارف، في خرق واضح لمبدأ المنافسة وتكافؤ الفرص الذي ينص عليه قانون الصفقات العمومية.
وتعيد هذه التطورات إلى الواجهة معطيات سبق أن وردت في تقارير تفتيش أنجزت على مستوى عشرات الجماعات الترابية، وأسفرت في بعض الحالات عن عزل رؤساء مجالس ونوابهم بقرارات قضائية. حيث وثقت تلك التقارير منح “التسلم المؤقت” لمشاريع تعاني عيوباً بنيوية، قبل توجيه مراسلات لاحقة للمقاولين حول نواقص في الأشغال، خارج الآجال القانونية للضمان، ما أسقط حق الجماعات في المطالبة بإصلاح الاختلالات، وورط مسؤولين جماعيين في تدبير غير سليم للمال العام.
وامتدت الاختلالات أيضاً إلى ملفات “التسلم النهائي” لمشاريع طرق وقناطر ومنشآت لتصريف المياه العادمة، إضافة إلى تظلمات واردة عن متضررين أكدوا عدم توصلهم بمستحقاتهم المالية، رغم إنجازهم التزامات تعاقدية في إطار صفقات عمومية واضحة البنود.
وتؤشر هذه التحركات، التي تقودها السلطات الترابية بتنسيق مع الأجهزة الرقابية، على مرحلة جديدة من التشدد في تتبع أوراش البنية التحتية، حيث لم تعد الأمطار مجرد ظاهرة طبيعية موسمية، بل تحولت إلى اختبار حقيقي لجودة الإنجاز، ومرآة تعكس مكامن الخلل في تدبير الصفقات العمومية، في أفق ربط المسؤولية بالمحاسبة، وصون المال العام، وضمان حق المواطنين في بنية تحتية آمنة ومستدامة.













