في مشهد يعبق بالوفاء والتقدير للرموز الروحية والعلمية بسوس، وبمناسبة الذكرى السنوية لوفاة الفقيه العالم سيدي الحاج محمد الحبيب البوشواري، الموافق لـ26 محرم 1447 هـ، تحولت قرية تنالت الجبلية بإقليم اشتوكة آيت باها إلى قبلة للعلماء وطلبة المدارس العتيقة والزوار من مختلف جهات المملكة، لإحياء موسم الوفاء لفقيد العلم والتصوف والجهاد، في أجواء روحانية استثنائية.
وفي خطوة رمزية عميقة المعاني، كانت أولى تحركات السيد محمد سالم الصبتي، عامل إقليم اشتوكة آيت باها، مباشرة بعد حفل تنصيبه الرسمي، زيارة زاوية ومدرسة سيدي الحاج الحبيب البوشواري بتنالت، تعبيرًا عن الاحترام العميق للموروث الديني، وتقديرًا لما تمثله هذه المعلمة الروحية والعلمية التي أشعت أنوارها على سوس والمغرب بأكمله.
خلال هذه الزيارة، اطلع السيد العامل عن كثب على أحوال الطلبة والمدرسين، وجال مختلف مرافق المدرسة، رفقة عدد من المسؤولين الدينيين والإداريين، حيث تمت تلاوة آيات بينات من الذكر الحكيم، ورفع الدعاء الصالح لأمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس نصره الله.
فبعد زيارته الهامة إلى المدرسة العتيقة بتعلات، حيث اطلع على أوضاع الطلبة وظروف التعليم والإقامة، في مبادرة ترسّخ العناية الرسمية بهذه المؤسسات، يرتقب أن يقوم السيد العامل غدًا الثلاثاء بزيارة إلى زاوية ومدرسة سيدي الحاج محمد الحبيب البوشواري بتنالت، تزامنًا مع الذكرى السنوية لوفاة هذا العالم الرباني والمربي المجاهد، التي تحل في 26 محرم من كل عام.
وتحمل هذه الزيارة رمزية خاصة، لكونها تأتي مباشرة بعد تعيين العامل الجديد، في التفاتة تُجسد عمق العلاقة بين الدولة ومؤسساتها الدينية التاريخية، وحرص السلطة الإقليمية على دعم مدارس العلم والزهد والاعتدال.
إحياء الذكرى.. احتفاء بالعلم والبركة
المناسبة لم تكن يوماً مجرد موسم ديني، بل محطة للتواصل بين الأجيال العلمية، وفضاء لاسترجاع مآثر رجل استثنائي، جمع بين الزهد والعلم والجهاد والتصوف والطب الشعبي، وساهم في تكوين المئات من الطلبة في فنون الفقه واللغة والحديث والنوازل والعلوم الطبيعية، حتى أصبحت مدرسته بتنالت منارة علمية مشرقة في سوس والمغرب.
وقد سادت أجواء من الخشوع والروحانية والفرح الروحي في آن، في محيط الزاوية والمدرسة، وسط تجند أبناء المنطقة وفعالياتها لاستقبال الزائرين، وتوفير الإقامة والمأكل وكل سبل الراحة لهم، تأكيداً على عمق الوفاء لعلم من أعلام المغرب المعاصرين.
الحاج الحبيب.. الفقيه الولي والمجاهد الشاعر
وُصف الفقيه سيدي الحاج محمد الحبيب بـ”ولي الفقهاء وفقيه الأولياء”، لما كان يتميز به من ورع وزهد ونبوغ علمي وتفوق في تدريس المتون الكبرى في الفقه واللغة والحديث، مع تميز ملحوظ في نظم الشعر وعلم العروض.
الشيخ لم يكن فقط عالماً فقيهاً، بل ناصحاً مصلحاً ومجاهداً ضد الاستعمار الفرنسي، إضافة إلى ممارسته الطب التقليدي بطريقة أثارت إعجاب العامة والخاصة، إلى درجة أن بابه كان مفتوحاً لكل طالب شفاء أو رأي.
علاقة خاصة مع المغفور له الحسن الثاني
من المواقف البارزة التي تواترت عبر الألسن، أن الملك الراحل الحسن الثاني كانت له علاقة احترام وتقدير خاصة بالشيخ الحاج محمد، حيث زاره في زاويته بتنالت، وأصر الشيخ حينها، حسب روايات مريديه، على أن “من أراد البركة، فليأتِ هو”، ما يعكس تواضعه وإباءه.
وفي سياق التحضير للمسيرة الخضراء، تقول بعض الروايات إن الملك استشاره فأيده ودعا له بالتوفيق، وقال عبارته الشهيرة: “لن تُطلق رصاصة بإذن الله”، وهو ما خُلد في ذاكرة المريدين كواحد من كرامات الشيخ.
مدرسة تنالت.. إشعاع متواصل
المدرسة العتيقة التي بناها الحاج الحبيب، لا تزال قبلة علمية نشطة، تُدرّس فيها متون “الأجرومية”، و”الألفية”، و”ابن عاشر”، و”الرسالة”، و”البردة”، و”تحفة ابن عاصم”، وغيرها، ولا تزال تخرّج الطلبة والفقهاء، وفق منهج أصيل يربط العلوم الشرعية بالواقع اليومي، في مزيج من الروحانية والصرامة العلمية.
الذكرى.. موعد سنوي لشد الرحال وتجديد العهد
تحوّلت الذكرى إلى موعد روحي وعلمي سنوي، يتجدد فيه الحضور الشعبي والعلمي والديني من كل حدب وصوب، لتُقرأ الفاتحة على روح الفقيه، وتُستعاد معاني الزهد والورع والعلم والإصلاح، في زمن تشتد الحاجة فيه لمثل هذه النماذج.
ومع تزايد الاهتمام الرسمي والشعبي بهذه الذكرى، تأمل الساكنة والمريدون أن تُدرج ضمن التراث اللامادي الوطني، وأن تحظى المدرسة العتيقة تنالت بدعم كافٍ يضمن استمرارية إشعاعها، ويكرم علمائها وأدوارهم في بناء مجتمع متماسك ومتنوّر.
رحم الله سيدي الحاج محمد الحبيب البوشواري، وجزاه خير الجزاء عما قدّم لوطنه وأمته، وجعل ذكراه المباركة منارة هدى للجيل الجديد من العلماء والمصلحين.