الملصق الديني في زمن كوفيد-19 : المقومات التقنية والدلالية

 

 

ذ- محمد أكعبور

باحث في الخطاب والإعلام الديني

تأطير الإشكال    

اللغة ظاهرة إنسانية، وظفها الإنسان للتواصل مع محيطه، سمَّى أدوات وأشياءً بمسمياتها، بفضل قوته الذكائية التي وُهبها، واستطاع طيلة وجوده على هذه الأرض أن يحافظ على لغته هذه، ويودِعها مضامينه الحياتية : الفكرية والنفسية والاجتماعية والفنية وحتى الدينية…، وبتطور الزمان تطور الإنسان محاولا التفوق على عصره، فطور تكنولوجيا متقدمة ومعقدة، ومنها تكنولوجيا الصورة،وجعلها أداة تواصلية إلى جانب اللغة، دفعته لذلك نزعته الخلودية وروحه الإبداعية .

وقد استطاعت هاتان الأداتان التواصليتان؛ اللغة والصورة، بفضل التوظيف الإنساني لهما ، أن تحتفظا بالمضامين الحياتية بشكل انفرادي حينا : اللغة أو الصورة الفوتوغرافية، وحينا آخر بشكل ثنائي، ذلك أنه وفي تمظهراتهما : اللغة والصورة، تتواطآن للاستجابة للرغبة الإنسانية والنزعة الذاتية لخلق معنى دلالي لدى المتلقي مستحضرا فيهما الملقي تنافسية إبداعية تراهن على عريضة جماهيرية للتأثير أكثر فأكثر .

فما ذا عن الملصق الديني ؟وما ظروف إنتاجه؟ وهل يخلف انطباعَ الاستجابة لدى المتلقي كما الملصق الإشهاري ؟ثم ما هي خصائص فن الملصق عموما؟ .

1 – الملصق الديني في زمن كوفيد-19:

في زمن الجائحة فُرضت رقمنة الخطاب أي خطاب وهو البديل في الزمن وخصوصا في زمن الحجر الصحي ، لكن حديثنا حول الخطاب الإشهاري والديني  عبر الاشتغال على نماذج لملصاقاتموضوعاتية فضلنا عدم تعيينها .

كان الملصق الديني قبل كورونا مناسبتيا ؛ يتعلق ببرنامج مسطر من لدن “الوسيط الديني الأكاديمي” مما يعمل لأجل تنفيذه “الوسيط الديني المدرسي” .

وكونه مناسبتيا ينتج لنا قلة في وفرة العمل الإعلامي ؛الإخباري باعتبار “الملصق الديني “يمارس وظيفة الإعلام والإخبار للنشاط المزمع تفعيل رسائله : العلمية أو التعليمية أو الإشادية بل وحتى الاجتماعية.

في زمن كورونا “الوصلة الدينية ” (الكبسولة) ذات الطابع الإصلاحي  التحسيسي التوعوي تدخل حيز التنفيذ وتزاحم “الوصلة الإشهارية” ذات الطابع الاستهلاكي الجامع بينهما المراهنة على الفرد والمجتمع بهدف الربح.

فالخطاب الإشهاري يسعى للربح المادي وخلق غريزة الاستهلاك لدى الفرد والمجتمع ؛ فيما الخطاب الديني يسعى إلى بناء إنسان وتلقينه كيفية الاستهلاك مخافة الهلاك .

فالمؤسسات الدينية تقدم وصلات دينية تهدف بناء الإنسان قيما وأخلاقا وحضارة وثقافة وتصحيحا لأغلوطات فكرية ومنهجية في التعامل مع المحيط وهي نتيجة لثقافة الجهل أو الاندفاع أو رد الفعل فيتدخل الخطاب الديني بأسلوبه الهادئ المستند إلى الأصول الشرعية علما ومنهجا للتقويم والتصحيح والتوجيه ؛ والإرشاد الديني السليم السبيل الأنجع لتلقين معارف التعامل مع المكروهات الطارئة .

2 – خطاب الملصق الديني والإشهاري

يلتقي “الملصق الديني” مع أنواع الملصقات التي يختلف تقسيمها حسب الموضوع ويتقاطع معها في كثير من النقاط وسنعمل على مقارنته مع “الملصق الإشهاري” لقوة تأثير هذا الأخير، فالخطاب الإشهاري خطاب متنوع، يمس الإحساس و الوجدان والعقل واللاوعي البشري لخلق التشهي وإنما رغبة الامتلاك حتى تصل درجة الشبقية لتندفع النفس المشتهي فلا تأبى الرضوخ أمام غريزة الاستهلاك الجامح .

تستلزم هذه “الوصلات الإشهارية” المعلقة المرتكزة على الحاجات اليومية، إقناع المشاهد القارئ بضرورة اقتناء السلعة وهو امتلاك ، الذل يحقق له التملك والاستهلاك .

هكذا يمارس ” الملصق الإشهاري ” على الفرد والمجتمع نوعا من الحماس اللفظي المقروء مسجوعا ما يخلق لدى المتلقي جوعا لا شبع بعده ممزوجا بتوليفات من الصورة الإيحائية التي تخلق فضائيا أرحب وعوالم يتورط فيها المتبضع المفترض الذي سيتلقى وابلا من الرسائل عبر محمولات تنفذ إلى كل الاحتمالات .

3 – خطاب الملصق : سياق الإنتاج والتلقي

يخضع الملصق مهما كانت هويته إلى سياقين : سياق الإنتاج وسياق التلقي

سياق الإنتاج ؛ في “الملصق الديني” ؛  الإخبار عن نشاط مزمع تنفيذ خطته التوجيهية والإرشادية والتعليمية والتوعوية والتحسيسية بخطورة فعل أو ظاهرة أو عواقب أفعال وسلوكيات .

أما عن سياق التلقي ؛ ففيه ينبغي استحضار الظروف ؛ ظروف إلقاء الخطاب .

عبر “الملصق الإشهاري” بإمكان الخطاب (الإشهاري) أن ينفذ إلى الناس، وذلك بفضل التنوع الذي ينتج عنه إرضاء للكل وتقبله بكل ثقة ورغبة في الامتلاك المفضي في النهاية إلى الاستهلاك وفق ما تم في النظرة الإخراجية والتوقعات المادية .

و”الصورة الإشهارية” أو “الخطاب الإشهاري” يلعب على اقتناص الحدث وتوظيف دلائليته ؛ وهو ما أشرنا إليه ب “سياق الإنتاج والتلقي” ، فالإشهار الموجه للطفل مثلا، يتم فيه توظيف حيوان أو شخصية أسطورية شوهدت في رسوم متحركة لها صفة البطل أو تجابه هذا الأخير أوله بعد ثقافي في المخيلة الاجتماعية وإن كانت الصورة في السينما والتلفيزيون لها خاصية الحركة عكس الملصق ؛ وهو أشبه بصورة فتوغرافية غير أن دعائم بحانبه تحصر معناه في التأثير بهد الاستجابة – ويمكن “للخطاب الديني” عبر “الملصق الديني ” الاقتداء ب “الخطاب الإشهاري” في التوظيف للتبليغ بهدف التأثير مما لا يخالف الأدبيات الشرعية والجوامع الأخلاقية .

كلاهما يشتركان في نقط :

–           في قناة التبليغ والتوصيل .

–           الإخراج : النظرة التقنية والجمالية بناء على عمل إبداعي يستند إلى موضوع الحديث المعلن عنه .

ومما وقفت عليه وأنا اشتغل في تحليل الموضوع أن الإخراج نوعان :

إخراج تقني : تطبعه البساطة في الصناعة والتأثير لفقدانه مجموعة من المقومات التي تتكامل لصناعة الحدث لفائدة فريضة جماهيرية .

إخراج احترافي : يحقق في مركباته درجات عالية من الدقة التقنية والانطباع الجمالي مغنيا الدلالة بشكل يجعل المتلقي يترقب لحظة البث مشاركا الوسيط بمختلف أجناسه عبر وسائط تواصلية مع المعارف والمتفاعلين.

–           التقني : الخطوط والألوان والكرافيك وهندسة المضامين داخل رقعة جغرافية بيضاء .

–           في الربح : “الخطاب الديني” وهو ملصق إخباري يسعى إلى ربح الإنسان باعتباره قيمة و”الخطاب الإشهاري” يسعى لربح الإنسان بوصفه كائنا مالكا مستهلكا وهذا منطق الاقتصاد المادي .

وإذا ما بحثنا عن عناصر التركيب التقني في “الملصق الديني”، فإننا نجد المجال والإطار والمكان ( الذي تحول في سياق كوفيد-19 إلى مكان رقمي تحضنه غرف التطبيقات الإليكترونية يتم الولوج إليها عبر أرقام ما يؤكد أن الإنسان كائن رقمي أو تقني أمام التكنولوجيا ) .

أما الزمان ؛ فيختلف حسب كل مؤسسة دينية وغالب توقيت البث لا يناسب فراغ الجمهور خصوصا بعد رفع الحجر الصحي والعودة الطبيعية تدريجيا للحياة ؛ ما أثر على نسب المشاهدة نزولا خلال الفترة الأخيرة والتي عرفت سقفا كبيرا خلال فترة الحجر الصحي .

إن “الخطاب البصري” خطاب قوي وعنيف والملصق رائد لهذا النوع من الخطاب، فهو يحيل على تعدد الدلالة وسيولة المعنى ، لذلك يحضر النص اللغوي معه ويقتسم معه المساحة والحيز الذي تحتله الأيقونات والرموز والمؤشرات موجها الدلالة نحو القصدية والاقتصار بالمفيد والاختصار.

4- الإرسالية البصرية والقوة الإبلاغية والتأثيرية

إن الذي يجعل من إرسالية بصرية ما قوية بلاغيا وتأثيريا، هو ما سنعرض له في هذه النقطة ويأتي الملصق في مقدمة الصورة ذات الحمولة الإبلاغية والتأثيرية القوية في مدى زمني قصير.

وهكذا برز وبقوة غير معتادة “الملصق الديني” باعتباره فنا من الفنون البصرية زاخر بمقومات تقنية وجمالية كما باقي الملصقات الموضوعاتية.

كان هذا “الملصق الديني” في حقيقة الأمر مناسبتيا لدى المؤسسات الدينية وهو الذي يعلن في الناس موعد وموضوع  بل وعنوان حديث “الوسيط الديني “.

هذا الملصق  الذي عرف تطورا كبيرا كما وكيفا في زمن كوفيد-19 .

خلال زمن كوفيد-19 ؛ لم يعد هذا الملصق مناسبتيا كما قبل الجائحة بل أضحى عملا منتظما متفاعلا مع الحدث والحملات والأنشطة الثقافية والدينية عن بعد وحتى حضوريا في مراحل ومحطات زمنية بعد رفع الحجر الصحي وحتى اللحظة.

إن الصورة في كل تمظهراتها، تظل إبداعا قصديا، يقوم منتجوها بعملية تأليفية وتوضيبية لعدد من العناصر المكونة لها، فهي –الصورة- ليست شيئا متجانسا، كما يبدو، وإنما هي نتيجة دراسة فنية وتقنية مسبقة، تساهم التقنيات الحديثة في إنتاجها مما ينعكس على قوتها وجاذبيتها وإبلاغيتها، فمن الريشة ومرورا بآلة التصوير الفوتوغرافية وانتهاء بأحدث آليات صياغة وإنتاج الصورة عبر الحاسوب والبرامج المخصصة لذلك، نجد أن الصورة سريعة التطور و قوية في التأثير والإغراء.

ومن مكونات الملصق الديني :

–           هوية المتدخل : الوسيط الديني ؛ فرديا أو ثنائيا أو جمعيا.

–           عنوان المؤسسة المنتجة أو المنظمة للنشاط الديني .

–           شعار المؤسسة .

–           نص ديني منطلق الحديث ؛ ( حديث الوسيط الديني) وهو النص المؤطر للتدخل .

–           موضوع التدخل أو النشاط.

وفي زمن كوفيد-19 ؛ للوسيط الديني الفردي حصة الأسد في التدخلات فيليه التدخل الثنائي ثم الجمعي وناذر جدا جدا.

وككل عملية تواصلية فإن التواصل البصري يمكن إجماله وتوضيحه في الخطاطة “الياكبسونية” ذات الستة عناصر؛ طرفاها : المرسِل والمرسَل إليه.

ما يجعلنا ننجذب نحوها ونفقد في النهاية السيطرة على ذواتنا وكأنها مخدر من نوع “ممتاز”، ” فلم تعد الصورة تقتصر على نقل المعارف… فحسب، بل أضحت أيضا واجهة من واجهات الفعل والتأثير في المتخيل للأفراد والجماعات” ، وهي مهمة وعتها حقا الجهات المنتخبة  للصورة عموما ومعدو الملصق على وجه خاص.

هذا الأخير- الملصق- في نظرنا له تأثير قوي وفعال : إيجابي أو سلبي على المتلقي المشاهد لأنه يكون مختزلا من جهة التركيب، محتواه الأيقوني واللساني ، لكنه غنى دلاليا وله خصائص عدة – سترد في متم المقال – تجعل منه أقوى سلطة خِطابية يتم توظيفها بقصد التأثير والاستقطاب الجماهيري لخلق مزيد رغبات الامتلاك والتملك : تملك المعرفة في الملصق الديني أو تملك المنتوج في الملصق الإشهاري .

إن كل صورة باستطاعتها أن تبلغ درجة ما في القوة والتأثير على المتلقي، والملصق تأكيدا ؛ صورة ثابتة كالصورة الفتوغرافية وبالتالي إقدامه على استهلاك ما تروج له : تجاريا كان، الاستهلاك والربح المادي أو ثقافيا(والدين ثقافة وحضارة) أو تحسيسيا  ؛ ربح الإنسان وهو مدار مختلف العمليات النوعية المتوالية في الزمان والمكان التي هي من صنع الإنسان وتفاعله .

5 – خصائص فن الملصق

لعل ما يختص به الملصق عموما :

– شغله حيزا بصريا يجتزئ التفاعل معه لحظات إنسانية من الزمن المادي والنفسي في مكان .

– الصدمة حاضرة أيضا وبقوة.

–  جماعي الإنتاج والتلقي .

–  النص يشتغل فيه بشكل مواز.

–  يقوم على مبدأ الاختزال والاقتصار والاختصار.

–  مجتزأ من مجموعة احتمالات واردة .

–  معقد التحليل لتعدد البنى الدلالية فيه .

– متعدد الدلائل والشفرات .

خلاصة

هذه الخصائص الفنية والدلالية مما وصلنا إليه عبر الاشتغال على تحليل نماذج من ملصقات إشهارية كما الدينية خلفت لدينا انطباعا كبير يدعو لمزيد بحث في الموضوع من أجل بعث مزيد من الدراسات العلمية التي ستجيب – بعيدا عن لغة الجواز من عدمه – على إمكان استفادة الخطاب الديني من الخطاب الإشهاري في جوانب تقنية وجمالية ودلالية تفتح شهية المتلقي للاستجابة الفورية للتمثلات الدينية التعبدية منها والسلوكية والعقدية كما التمثلات الاستهلاكية للبضاعة المعلَن عنها في الملصق الإشهاري .

الأخبار ذات الصلة

1 من 1٬206