منذ قرون، تتناقل الأجيال في آيت عميرة وسيدي بيبي بإقليم أشتوكة آيت باها قصة أراضيهم. قصة لا تقتصر على مجرد ملكية عقارية، بل تتشابك فيها ذاكرة الأجداد، وثائق تاريخية عتيقة، ومطالب مستمرة بالعدالة، في مواجهة تصنيف رسمي يصر على اعتبارها “أراضي الجموع”. اليوم، وفي ظل قوانين وتشريعات جديدة، يبدو أن عقارب الساعة بدأت تدور في الاتجاه الصحيح، حاملةً معها بصيص أمل بإنهاء حقبة من الغموض والنزاعات.
لطالما عوملت الأراضي الشاسعة في هاتين المنطقتين على أنها ملكية جماعية للدولة، يقتصر حق السكان عليها على الانتفاع بالزراعة والرعي. هذه المقاربة الرسمية، التي تندرج ضمن تصنيف “الأراضي السلالية”، تتعارض بشكل صارخ مع السرد التاريخي الذي يحمله السكان، والذي تؤكده الآن جمعيات محلية كـ “جمعية الأصالة للدفاع عن مكتسبات أراضي الأجداد والتنمية والتعاون”. يؤكد السكان أن هذه الأراضي ليست “جموعاً” بالمعنى المتعارف عليه، بل هي “أراضي أجداد” اشتراها أعيان المنطقة من السلطان المولى إسماعيل شخصياً في عام 1103 هجرية، أي منذ أكثر من ثلاثة قرون.
وثيقة تاريخية تثبت الملكية الخاصة
يكمن حجر الزاوية في هذه القضية في وثيقة تاريخية محورية، عبارة عن عقد بيع موثق يحمل تفاصيل دقيقة للثمن المدفوع (ثلاثة آلاف مثقال ملكة) وحدود الأراضي المشتراة وأسماء البائع (المولى إسماعيل) والمشترين من أعيان القبيلة. هذه الوثيقة، التي تمثل سندًا قانونيًا قويًا، تنفي بشكل قاطع فرضية أن تكون هذه الأراضي مجرد حق انتفاع، وتثبت أنها ملكية خاصة انتقلت إلى السكان بالبيع ثم بالتوارث والتحويلات الفردية عبر الأجيال. إن وجود هذه الوثيقة، التي تم تداولها مؤخرًا، يضع المسؤولين أمام حقيقة تاريخية لا يمكن إنكارها.
معركة المطالبة بالحقوق: من 2010 إلى اليوم
تعود جذور المطالبات بالملكية إلى عقود مضت، حيث كانت جريدة الاتحاد الاشتراكي قد نشرت في 18 يناير 2010، تقريراً مفصلاً عن معاناة السكان. في ذلك الوقت، كانت مطالبهم واضحة: إلغاء تسمية “أراضي الجموع” والتحديد الإداري 290، وإلغاء صلاحيات ما يسمى بالمجلس النيابي الذي يتصرف في الأراضي دون حسيب أو رقيب، ورفع يد مجلس الوصاية عن أراضيهم لوقف التفويتات “المشبوهة”. كما طالبوا بإرجاع الأراضي المنزوعة أو تعويض المتضررين، وفتح باب تحفيظ الأراضي لفائدة ملاكيها الأصليين.
لقد كشفت تقارير سابقة عن تفويتات ضخمة للأراضي، بلغت 208 هكتارات لصالح مؤسسة العمران، منها 164 هكتاراً لإحداث منطقة صناعية و40 هكتاراً لتجزئة سكنية، بأسعار بيع فاقت عشرات الملايين من الدراهم. ما أثار غضب السكان هو أن التعويضات عن هذه التفويتات وُضعت في صندوق “المجلس النيابي” الذي طعنوا في شرعيته وطريقة عمله، لكون قراراته لم تكن موقعة من جميع أعضائه، فضلاً عن أنهم تجاوزوا مدتهم القانونية منذ انتخابهم في عام 1970، وكون أغلبهم أميين.
القوانين الجديدة: خطوة نحو التمليك الفردي
يبدو أن هذه المعركة الطويلة بدأت تؤتي ثمارها. فالقوانين الجديدة التي تؤطر الأراضي السلالية في عموم المملكة، قطعت شوطاً مهماً في الاتجاه الصحيح بآيت عميرة وسيدي بيبي نحو تكريس الملكية للساكنة. والأهم من ذلك، أن المحافظ الإقليمي للأملاك العقارية قد أصدر شهادة تؤكد “حفظ الأراضي نهائياً للساكنة”، مع استثناء مراكز الجماعتين والأراضي المتوفرة على وثائق التعمير (كالدواوير) المخصصة للتعمير، وتخصيص الأراضي الواقعة في دوائر الري للمشاريع الفلاحية الكبرى.
هذا التطور يمثل نقطة تحول حاسمة، إلا أن التحدي الأكبر يكمن الآن في “المرور إلى التمليك الفردي بعد تحقق التمليك الجماعي”. هذه الخطوة تتطلب تضافر جهود الجميع: من يقظة وتعاون الساكنة لضمان نجاح الورش، إلى التدبير الحكيم لمجلس الوصاية الإقليمي الذي يجب أن يسرع بتنقيح لوائح ذوي الحقوق.
المستقبل: محاسبة وتطهير
ولتحقيق العدالة الكاملة، يُدعى إلى تفعيل آلية مؤسساتية ديمقراطية وشفافة، ممثلة في مجلس نيابي جديد يتوافق مع منطوق المادة 10 من القانون 62.17، التي تحدد مدة انتداب نائب الأراضي الجماعية بست سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة. والأهم من ذلك، يُشدد على ضرورة “المحاسبة الفورية والصارمة لكل المتلاعبين في أراضي الأجداد”، وفتح تحقيق نزيه لإرجاع الحق لأصحابه ممن انتزعت أراضيهم أو فُوتت بطرق غير قانونية لأهداف نفعية ضيقة.
إن قضية أراضي آيت عميرة وسيدي بيبي هي أكثر من مجرد نزاع عقاري؛ إنها قضية هوية وتاريخ وحقوق. ومع الإرادة السياسية الواضحة والتشريعات الجديدة، بالإضافة إلى الوثائق التاريخية التي لا تدع مجالاً للشك، يبدو أن حلم الأجداد بالملكية الكاملة لأراضيهم بات أقرب من أي وقت مضى، مما يمهد لمرحلة جديدة من التنمية العادلة والشاملة في المنطقة.
في قلب أشتوكة آيت باها: وثيقة المولى إسماعيل تقلب موازين ملكية الأراضي بآيت عميرة وسيدي بيبي
