بين الراتب والحافز: هل الأطباء ضحايا أم مسؤولون عن تدهور الخدمات الصحية؟

تعتبر المستشفيات العمومية في المغرب قلب المنظومة الصحية، لكنها غالبا ما تكون عرضة لانتقادات حادة تتعلق بجودة الخدمات المقدمة. يواجه الأطباء فيها اتهامات بعدم التفاني في عملهم، رغم أن الأمر يتجاوز الإرادة الشخصية ليلامس واقعاً مهنياً معقداً يفرض قيوده. فعدم تفاني الطبيب في القطاع العام ليس تقصيراً فردياً بقدر ما هو نتيجة حتمية لتحديات هيكلية ونفسية.

بيئة عمل مثبطة
السبب الأول يكمن في بيئة العمل المادية والمعنوية. الأطباء في القطاع العام يعملون في ظل نقص حاد في الموارد. المستشفيات غالباً ما تكون مكتظة بالمرضى، ونقص التجهيزات الطبية الأساسية والمواد الاستهلاكية يضعهم في مواقف لا تسمح لهم بتقديم الرعاية المثلى. كيف يمكن للطبيب أن يتفانى إذا كان مضطراً للعمل بضعف الإمكانيات، في ظل ضغط هائل وعدد غير كافٍ من الأطقم التمريضية والمساعدة؟ هذا الواقع اليومي يولد إحباطاً مستمراً ويقتل أي دافع للتفاني.

الأجور والإغراءات الخارجية
يُعدّ العامل المادي سبباً جوهرياً. رواتب الأطباء في القطاع العام  لا تتناسب مع سنوات الدراسة الطويلة والجهد الكبير المبذول. مقارنةً بالقطاع الخاص أو بالخارج، حيث تتدفق العروض المغرية، تبدو أجور القطاع العام زهيدة. هذا التفاوت يجعل الطبيب يشعر بعدم التقدير المادي لجهوده، مما يدفعه إلى البحث عن تعويض في عيادة خاصة أو في مهام إضافية، وهو ما يؤثر حتماً على جودة أدائه في المستشفى العمومي.

الفجوة الصارخة بين المغرب والخارج
تتضح هذه الفجوة عند مقارنة متوسط راتب الطبيب المغربي، الذي يتراوح بين 12,000 و22,000 درهم، بنظرائه في أوروبا. على سبيل المثال، يمكن للطبيب في فرنسا أن يتقاضى ما يعادل 4,500 إلى 6,700 يورو شهرياً، بينما يصل الراتب في هولندا إلى حوالي 9,750 يورو. هذا يعني أن الطبيب المغربي يتقاضى ما بين 3 إلى 5 أضعاف أقل من زملائه الأوروبيين، مما يجعل الهجرة خياراً مغرياً لا يمكن تجاهله.

غياب التحفيز والمسار المهني
على عكس القطاع الخاص الذي يعتمد على مبدأ الأداء والتحفيز المباشر، فإن المسار المهني في القطاع العام غالباً ما يكون بطيئاً ومعقداً. قلة فرص الترقية والتدريب، وغياب المكافآت المرتبطة بالأداء، تجعل الطبيب يشعر أن جهوده الإضافية لن تُثمر شيئاً. هذا النمط الروتيني يقتل روح المبادرة والابتكار، ويحول العمل من رسالة إنسانية إلى مجرد وظيفة روتينية لضمان راتب شهري.

هل الحل يكمن في القطاع الخاص؟
يجد الكثير من الأطباء ضالتهم في القطاع الخاص، حيث تتوفر ظروف أفضل: تجهيزات حديثة، أجور أعلى، وتقدير أكبر للجهد المبذول. هذا الأمر يخلق نوعاً من الانفصام المهني، حيث يقدم الطبيب أفضل ما لديه في عيادته الخاصة، بينما يؤدي الحد الأدنى من مهامه في المستشفى العمومي. هذا الواقع ليس اختياراً شخصياً في الغالب، بل هو رد فعل على نظام لا يحفز على التفاني.

مشكلة عدم تفاني الأطباء في المستشفيات العمومية ليست أزمة أخلاقية فردية، بل هي نتاج لبيئة مهنية غير محفزة، ونظام أجور لا يقدر الكفاءات، وغياب آليات التحفيز والتقدير. معالجة هذا الخلل تتطلب إصلاحاً عميقاً للمنظومة الصحية، يرفع من قيمة الطبيب ويمنحه كل ما يحتاجه ليؤدي رسالته على أكمل وجه.

 

الأخبار ذات الصلة

1 من 369

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *