منذ مطلع الألفية الثالثة، ظل قطاع الصحة في المغرب عنواناً لأزمة هيكلية مزمنة، حيث تعاقبت عليه أسماء وازنة من الوزراء، غير أن الإشكالات الجوهرية بقيت عصية على الحل. وإذا كانت فترة محمد الشيخ بيد الله قد دشّنت نفساً إصلاحياً حاول وضع اللبنات الأولى لتغيير جذري، فإن الخلفاء الذين جاؤوا بعده لم يتمكنوا من بلورة إصلاح مستدام، إلى أن دخل المغرب اليوم في مرحلة جديدة مع إطلاق الورش الملكي لتعميم الحماية الاجتماعية.
ما قبل بيد الله: إدارة أعطاب متراكمة
وزراء الصحة الذين سبقوا بيد الله كانوا يشتغلون بمنطق إطفاء الحرائق أكثر من صياغة رؤية مستقبلية. فالبنيات التحتية كانت في وضع متدهور، والأطر الطبية قليلة، والتغطية الصحية محدودة. غابت الحكامة الرشيدة، وكان همّ التدبير اليومي يطغى على التفكير الاستراتيجي.
بيد الله: محاولة تأسيس مشروع إصلاحي
مع تولي محمد الشيخ بيد الله (2002-2007)، وُضع المخطط الوطني للصحة 2003-2007، وهو أول محاولة لوضع تصور شامل للإصلاح. من أبرز ملامحه:
الدفع نحو تعميم نظام المساعدة الطبية “راميد” (الذي سيُفعل لاحقاً).
تعزيز برامج محاربة الأمراض المزمنة والمتنقلة.
العمل على تقوية الموارد البشرية، في وقت كانت الوزارة تعترف بنقص حاد في الأطباء والممرضين.
بيد الله أعطى للقطاع نفساً إصلاحياً، لكنه ظل أسير ضعف التمويل وضغط التوازنات المالية للدولة. لذلك وصفه كثيرون بـ”المصلح الذي فتح الباب ولم يُكمل المسار”.
الخلفاء: إصلاحات متعثرة وشبهات
ياسمينة بادو (2007-2012) ارتبط اسمها أكثر بصفقات الأدوية واللقاحات، رغم أنها دفعت بملف “راميد” إلى الأمام. غير أن غياب الشفافية شوه تجربتها.
الحسين الوردي (2012-2017) كان وزيراً “شعبوياً” بامتياز، حضر كثيراً في الإعلام وخاض معارك ضد الفساد، لكنه لم يُنجز إصلاحاً بنيوياً حقيقياً.
أنس الدكالي (2018-2019) اقترح حلولا مثل توظيف أطباء أجانب، غير أن ولايته القصيرة جعلته بلا أثر واضح.
خالد آيت الطالب (2019-2021 ثم 2022-2024) واجه اختبار جائحة كورونا، حيث برزت قوته في تدبير الأزمة الصحية والتلقيح، لكن بعد انحسار الجائحة، عاد القطاع ليواجه نفس الاختلالات البنيوية.
الورش الملكي: فرصة لإعادة البناء
مع إعلان جلالة الملك محمد السادس عن الورش الكبير لتعميم الحماية الاجتماعية ابتداء من 2021، أصبح لزاماً على وزارة الصحة أن تتحول من إدارة خدمات محدودة إلى ركيزة أساسية لعدالة اجتماعية جديدة. هذا المشروع يفرض:
توسيع البنيات التحتية لمواكبة الطلب المتزايد.
سد الخصاص في الموارد البشرية الذي تعترف به الوزارة نفسها، خصوصاً في القرى والمناطق النائية.
تأهيل الحكامة عبر محاربة الفساد والزبونية في التعيينات والصفقات.
إعادة الاعتبار للمستشفى العمومي في مواجهة هيمنة القطاع الخاص.
الإشكال في قطاع الصحة بالمغرب لم يكن يوماً في شخص الوزير، بل في طبيعة السياسات والخيارات الكبرى. وإذا كان بيد الله قد حاول أن يرسم خطاً إصلاحياً مبكراً، فإن من جاؤوا بعده تقاذفتهم الأزمات والفضائح. واليوم، مع الورش الملكي لتعميم الحماية الاجتماعية، لم يعد الإصلاح خياراً، بل ضرورة وطنية لإنقاذ المنظومة من الانهيار.
المطلوب اليوم ليس وزيراً “مصلحاً” أو “شعبوياً”، بل إرادة سياسية قوية تعطي للصحة أولوية فعلية، وتجعل كرامة المواطن فوق الحسابات المالية الضيقة.