صالح الباشا… رحل وحيدًا كما عاش، وبين المحبين الحقيقيين و”المتباكين الجدد” تتجلى مرارة الوفاء الزائف

في مشهدٍ تراجيديٍّ يعكس قسوة الواقع الذي يرزح تحت وطأته العديد من الفنانين المغاربة، رحل الفنان الأمازيغي صالح الباشا في صمت مطبق، تاركًا خلفه إرثًا فنيًا غنيًا، ومرارة إنسانية أعمق من كل كلمات الرثاء. توفي الباشا في منزله المتواضع بحي الدراركة، ولم يُكتشف خبر وفاته إلا بعد مرور يومين أو ثلاثة أيام، حينما ساور الشك أحد معارفه بسبب اختفائه غير المعتاد وانقطاع التواصل معه. بادر المعارف بإبلاغ مصالح الدرك الملكي، التي سارعت إلى مكان الحادث وفتحت تحقيقًا تحت إشراف النيابة العامة.

لم يكن رحيل الباشا مجرد خبرٍ مفجعٍ لعشاق الأغنية الأمازيغية فحسب، بل كان أيضًا مرآةً كاشفةً لنفاق جزء من المشهد الفني والثقافي. فما إن انتشر الخبر، حتى تسابق البعض إلى نشر صورهم مع الفقيد أو تداول عبارات تعزية طويلة، في محاولة يائسة لإيهام الرأي العام بوجود علاقات مزعومة مع الرجل. لكن الواقع، للأسف، كان مغايرًا تمامًا؛ فقد كان الراحل غالبًا ما يُرى وحيدًا في الأماكن العامة، بلا رفقة أو اهتمام يُذكر.

هذا الفنان المتواضع، بصوته الدافئ وأدائه الصادق، لم يكن من طينة أولئك الذين يلهثون خلف الأضواء أو المناصب. بل آمن بالفن كرسالة سامية، وظل وفيًا لهذا الإيمان حتى آخر أيامه. ولعل وفاته في عزلة تامة، دون أن يفتقده أحد إلا بعد أيام، تكشف عن خللٍ كبيرٍ في علاقتنا بفناني الزمن الجميل، أولئك الذين أعطوا بسخاء دون مقابل، وغنّوا للحياة والكرامة وهم في صراعٍ يومي مع التجاهل والنكران.

في المقابل، كانت مشاعر الحزن التي عبر عنها جمهوره الحقيقي وزملاؤه الأوفياء على منصات التواصل الاجتماعي مؤثرة وصادقة. غير أنها لا تخفي الأسى الأكبر: لماذا لا نتذكر بعض الفنانين إلا بعد موتهم؟ ولماذا لا يُكرم بعضهم إلا وهم في النعوش؟

لم يكن الراحل صالح الباشا فنانًا فحسب، بل كان ضميرًا غنائيًا أمازيغيًا حمل هموم الناس، وترجمها إلى كلمات ومقامات راسخة في الوجدان. واليوم، وهو يغادرنا في صمت، يجب أن يكون رحيله جرس إنذار للمؤسسات الثقافية، وللجمهور، ولنا جميعًا: إن فنانينا لا يحتاجون التصفيق في الجنازات، بل الاعتراف والتقدير في الحياة.

ويبقى السؤال المؤلم معلقًا، يتردد صداه في أرجاء المشهد الفني والثقافي: كم من “صالح” بيننا يعيش الآن في صمتٍ وعزلة… ينتظر فقط من يسأل عنه قبل أن يفوت الأوان؟

 

A.Bout

 

 

 

 

الأخبار ذات الصلة

1 من 1٬029

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *