منذ حصول المغرب على الاستقلال، اختار طريق التعددية الحزبية ورفض منطق الحزب الوحيد، على عكس العديد من الدول التي سقطت في نموذج التسلط السياسي أو الشمولية التنظيمية. وقد شكّل هذا الاختيار ركيزة أساسية في بناء الحياة السياسية الوطنية، حيث تعدّ الأحزاب، بمختلف مرجعياتها، رافعة للتأطير والمشاركة وصياغة السياسات العمومية. وفي قلب هذه التعددية، نشأ الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية كامتداد لحركة وطنية مقاومة، وكقوة تقدمية حداثية ساهمت بقوة في ترسيخ الديمقراطية وفتح المجال أمام التنوع والتعدد.
في لحظة دقيقة تعيش فيها بلادنا تحديات سياسية واقتصادية واجتماعية مركبة، وتستعد فيها الأحزاب الوطنية لخوض استحقاقات مصيرية، نُفاجأ، بكل أسف، ببعض الأصوات التي لا تجد حرجًا في تحويل النقاش الداخلي المشروع إلى صراع هدام، يتغذى على لغة التخوين والتشكيك والتشويش.
لقد تحوّل موضوع الولاية الرابعة للكاتب الأول إلى واجهة مفتعلة تُستغل في غير سياقها، لتصفية حسابات شخصية، أو للترويج لصراعات داخلية على حساب وحدة الحزب وتماسكه. والأسوأ من ذلك، أن بعض المنتسبين إلى الاتحاد أصبحوا يرددون مزاعم الإعلام الأصفر، ويساهمون في تأجيج الجدل من خارج مؤسسات الحزب، بدل معالجة الأمور من داخلها، كما تقتضي أخلاقيات النضال الديمقراطي.
وإنه لمن المؤسف أن نرى من احتضنهم الاتحاد ذات يوم، وفتح لهم فضاءاته ومنابره، يرفعون اليوم معاول الهدم ضد البيت الاتحادي، بدل أن يساهموا في تحصين مكتسباته وتعزيز صفوفه. فأن يتحوّل الحماس إلى عدوانية، والنقد إلى تجريح، والخلاف إلى خصومة، فتلك منزلقات لا تليق بتاريخ حزب ناضل من أجل حرية التعبير، وراكم تجربة ديمقراطية فريدة داخل مؤسساته.
إن الطعن في طريقة اشتغال الهياكل التنظيمية للحزب، لا يُمكن أن يكون خارج أجهزته الشرعية، بل مكانه الطبيعي داخل المؤسسات، وبعد احترام قوانين الحزب الأساسية وأنظمته الداخلية. فالاختلاف في الرأي مقبول، بل ومطلوب داخل أي تنظيم حي، لكن بشرط الالتزام بالمرجعية المشتركة، وعدم تحويل النقد إلى فوضى، ولا المنابر الخارجية إلى ساحة لتصفية الحسابات.
ومن يقول إن المركز يطرد أو يمنع من تبنّى الفكرة الاتحادية وأراد الانخراط في الحزب، فهو إمّا جاهل بتقاليد الاتحاد، أو متعمّد للتشويه. الاتحاد الاشتراكي لم يغلق بابه يومًا في وجه المنخرطين الجادين، بل ظل، عبر تاريخه، فضاءً مفتوحًا لكل من آمن بمبادئه واختار النضال سبيلًا للإصلاح. لكن، في المقابل، لا يقبل أن يتحوّل “الانخراط” إلى ذريعة لهدم الحزب من الداخل، أو القفز على قواعده، أو الطعن في شرعية مؤسساته. فقوانين الحزب هي القاضي والحاكم، والمسطرة التنظيمية هي الفيصل بين الاختلاف المشروع والانحراف المرفوض.
وفي هذا السياق، فإن القوانين التنظيمية للاتحاد الاشتراكي واضحة وصريحة: الانخراط، وتجديده، وأداء واجباته المالية، والمشاركة المنتظمة في أنشطة الحزب، هي الشروط التي تحدد الاستمرارية أو الانقطاع. فلا يمكن لمن لا يُجدد انخراطه، ولا يساهم في الدينامية التنظيمية للحزب، أن يطالب بالشرعية من خارجها أو أن ينصّب نفسه وصيًّا على قراراتها.
فالالتزام داخل الاتحاد ليس فقط فكرة أو عاطفة… بل ممارسة فعلية ومسؤولية متواصلة داخل هياكله التنظيمية. ودون ذلك، يُعتبر أي تدخل باسم الحزب تطفلاً لا يستند إلى أي مشروعية تنظيمية أو أخلاقية، ولا يحقّ لصاحبه أدبيًا ولا نضاليًا أن يتحدث باسم الاتحاد أو أن يخوِّن مناضليه.
وأتذكر أنه في أحد اللقاءات، قالت لي إحدى الأخوات مستنكرة: “الاتحاد ليس تكنة عسكرية لكي ننفذ ما يُطلب دون نقاش أو قدرة أفقية.”
وكان جوابي بكل وضوح: “نعم، الاتحاد الاشتراكي ليس تكنة عسكرية، بل مدرسة نضالية ديمقراطية، لكنه أيضًا تنظيم سياسي له قواعده، ومساطره، وضوابطه. والشرط الأول والأخير عند قبول الانخراط فيه هو: الانضباط، ثم الانضباط، بعد الاتفاق.”
لأن الانتماء ليس تصريحًا عاطفيًا، بل التزامًا فعليًا، والانضباط ليس خضوعًا، بل مسؤولية ووفاء لما تم الاتفاق عليه جماعيًا داخل مؤسسات الحزب.
وقد قالها ذات يوم، بصدق ومسؤولية، الأخ عبد الواحد الراضي، رحمه الله، في لحظة تقييم بعد إحدى المحطات الانتخابية: “أعداء الحزب الحقيقيون هم من أبنائه، لا من المواطنين.”
ولعلها مناسبة للتذكير كذلك بكلمة خالدة للمرحوم عبد الرحمن اليوسفي، حين خاطب أحد المتدخلين ممن تجاوز حدود الاختلاف المشروع بقوله: “أرض الله واسعة”، في إشارة واضحة إلى أن من لا يلتزم بقواعد الحزب التنظيمية وأخلاقياته، فلا شيء يُجبره على البقاء بداخله لمجرد التشويش.
الاتحاد الاشتراكي، بتاريخه ومبادئه وشرعية مناضليه، سيواصل مساره الوحدوي بثقة، مستندًا إلى قوته التنظيمية، وطاقاته الصاعدة، ومؤسساته الديمقراطية. وسيبقى الاختلاف مرحبًا به، ما دام في إطار الاحترام والمؤسسات، لا من خلال الفوضى والانفعال والتخوين.
لقد آن الأوان للكفّ عن العبث بخيوط البيت الاتحادي من الداخل. فالوطن بحاجة إلى نخبة مسؤولة توحّد، لا إلى أصوات متشنجة تُفرّق.
والتاريخ لا يرحم من يُسيء للأمانة، ويتاجر بالمواقف على حساب المبادئ.
اللهم إني قد بلّغت.
صوت العدالة – البشير بن محمد احشموض
منتخب مهني وفاعل في الشأن العام
عضو سابق في المجلس الوطني لحزب الاتحاد الاشتراكي
منخرط اتحادي ملتزم منذ سنة 1975، ولا أزال
أكادير، 6 غشت
الإمضاء: البشير احشموض