المقابر في المغرب: بين الإهمال والتخطيط العمراني غير المتوازن

كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن وضعية المقابر داخل المجال الحضري، خصوصًا في المدن الكبرى، حيث باتت هذه القضية تشكل هاجسًا حقيقيًا لدى الساكنة، في ظل التوسع العمراني المتسارع وغياب رؤية تخطيطية تواكب هذا التحول الديموغرافي. وبصفتي مهتمًا بالشأن العام، أود أن أدلي برأيي المتواضع في هذا الموضوع، رغم أنني لا أتحمل أي مسؤولية مباشرة في تدبير الشأن المحلي أو الجهوي.
إن الأزمة التي تعاني منها مقابر إنزكان، وغيرها من المدن الكبرى، ليست وليدة اللحظة، بل هي نتيجة تراكمات امتدت لعقود، حيث لم يتم إدراج الجانب المتعلق بدفن الموتى ضمن أولويات التخطيط الحضري. فقد انصبَّ اهتمام المسؤولين على توفير السكن والبنية التحتية للأحياء، متناسين الجانب الخاص بالموتى، رغم أن الموت حقيقة حتمية لا يمكن تجاهلها.
وقد تفاقم هذا الإشكال مع تزايد عدد السكان في المدن، والذي يعود في جزء كبير منه إلى موجات الهجرة القروية التي شهدها المغرب، خاصة في سبعينيات القرن الماضي، بسبب سنوات الجفاف وتراجع فرص العيش في البوادي. فالدولة، في إطار سياستها الإسكانية، ركزت على تدبير السكن للوافدين الجدد، لكنها لم تُدرج ضمن أولوياتها ضرورة توفير مساحات كافية لمقابر تستوعب احتياجاتهم بعد الوفاة.
مشروع مقبرة “أخربان” بطريق مطار المسيرة: حل قديم حان وقت تفعيله
في خضم البحث عن حلول بديلة، يبرز مشروع المقبرة الجماعية “أخربان”، المتواجدة فوق الملك الغابوي التابع لجماعة التمسية بطريق مطار المسيرة، كأحد الحلول الأكثر واقعية واستدامة. فهذا المشروع ليس جديدًا، بل يعود إلى سنوات طويلة، لكنه ظل معلقًا دون تنفيذ، رغم أنه يمثل الحل الأنسب لتخفيف الضغط على المقابر الحالية.
لماذا مقبرة “أخربان” هي الخيار الأفضل؟
مشروع قديم لم يُفعّل بعد: رغم الحاجة الملحة، لم يتم استغلال هذا الموقع حتى اليوم، مما يفرض الإسراع في اتخاذ خطوات عملية لتنفيذه.
موقع استراتيجي: تقع المقبرة في موقع متوسط بين مختلف جماعات الإقليم، مما يسهل الوصول إليها من جميع الاتجاهات.
وعاء عقاري كافٍ: توفر المساحة الواسعة لهذه المقبرة يجعلها بديلاً طويل الأمد، بدل الحلول المؤقتة التي سرعان ما تصبح غير كافية.
إمكانية اعتماد نموذج حديث في التهيئة: بدل المقابر العشوائية، يمكن تنظيم هذه المقبرة على غرار التجارب الناجحة مثل مقبرة “تليلا” بأكادير.
مقبرة “تليلا” بأكادير: نموذج ناجح يجب الاقتداء به
عانت مدينة أكادير سابقًا من نفس الإشكال الذي تعاني منه إنزكان اليوم، حيث كانت مقبرة “لاحشاش” القديمة غير قادرة على استيعاب عدد الوفيات المتزايد، مما استدعى البحث عن بديل أكثر ملاءمة. وقد تم اعتماد مقبرة “تليلا” كحل استراتيجي، حيث تم:
تخصيص وعاء عقاري واسع يسمح باستيعاب الأجيال القادمة.
تهيئة المقبرة وفق معايير حديثة، تشمل تنظيمًا دقيقًا للقبور، ممرات مريحة، أماكن للصلاة، ومرافق للزوار.
توفير بنية تحتية ملائمة، بما في ذلك مواقف سيارات وسهولة الوصول، مما يسهل على الأسر زيارة موتاهم دون عناء.
دور مقابر أكادير الكبير في استقبال ضحايا زلزال 1960
علينا أن لا ننسى أن مقابر أكادير الكبير كانت شاهدة على واحدة من أعظم الكوارث الطبيعية التي ضربت المغرب في القرن العشرين، حيث استقبلت في بداية الستينيات أعدادًا كبيرة من ضحايا زلزال 1960، ومن بينها مقبرة للا رقية الحاج بإنزكان.
هذا الحدث يبرز الأهمية القصوى لوجود مقابر كافية ومجهزة لاستيعاب حالات الوفاة الجماعية في الكوارث الطبيعية أو الأزمات المفاجئة.
التجربة التاريخية أثبتت أن المدن بحاجة دائمة إلى مقابر ذات سعة كبيرة، لأن الظروف غير المتوقعة قد تفرض استخدامها في أي وقت.
حماية المقابر في المغرب: مسؤولية تاريخية وضمانة قانونية
منذ قرون، كان أمير المؤمنين في المغرب، بصفته الحامي للدين، هو الضامن لاحترام أماكن العبادة والمقابر لجميع الديانات السماوية. وبعد الاستقلال، أصدر جلالة الملك محمد الخامس ظهيرًا شريفًا يمنع البناء على بعد 30 مترًا من أي مقبرة، حفاظًا على حرمتها.
تجربتي الشخصية في توسيع مقبرة “تراست” قبل إغلاقها
أتحدث هنا بصفتي أحد المساهمين في توسيع المقبرة القديمة لمسقط رأسي “تراست” قبل إغلاقها سنة 2015 وتعويضها بمقبرة إنزكان. كنت شاهدًا على الجهود التي بُذلت لضمان استمرار هذا المكان كمثوى كريم لساكنة المنطقة، وكنت من مزوديها بالماء والكهرباء، وبكم جواري معها إلى الأمس القريب، وقد ورثت ذلك عن والدي رحمه الله رحمة واسعة.
لم يكن هناك أي تخطيط مسبق لتوفير بديل، مما جعل توسعة المقبرة ضرورة لاستيعاب العدد المتزايد من الوفيات.
بفضل جهود المجتمع المحلي والمحسنين، استطعنا تأمين مساحة إضافية، لكننا كنا نعلم أنها لن تكون حلًا دائمًا.
اليوم، بعد تعويض مقبرة “تراست” بمقبرة إنزكان، أدرك أكثر من أي وقت مضى أهمية التخطيط المستقبلي لإنشاء مقابر تستجيب لحاجيات الأجيال القادمة.
وسائل النقل والتواصل لم تعد عذرًا
اليوم، ومع توفر وسائل النقل الحديثة وسهولة التنقل، لم يعد القرب الجغرافي من المقبرة مبررًا لعدم اعتماد حلول مستدامة.
لم يعد هناك عذر لعدم إنشاء مقابر منظمة خارج التجمعات السكانية، لأن الوصول إليها أصبح أكثر سهولة من أي وقت مضى.
التكنولوجيا والرقمنة توفر حلولًا إضافية، مثل الخرائط الرقمية وأنظمة إدارة المقابر، التي تسهل عمليات الدفن والزيارة.
الرهان يجب أن يكون على الجودة والتنظيم، وليس على القرب المكاني فقط.
المسؤولية جماعية وليست فردية أو سياسية
علينا أن لا نختزل هذا الموضوع في مسؤولية فردية أو سياسية فقط، بل هو مسؤولية جماعية تشمل:
المواطنين الذين يجب أن يكونوا واعين بأهمية دعم هذا الملف.
المسؤولين الإداريين المطالبين بإدراج المقابر ضمن أولويات التخطيط الحضري.
المنتخبين الذين يجب أن يتحملوا مسؤوليتهم في اقتراح وتنفيذ حلول دائمة.
المجتمع المدني الذي يمكنه لعب دور أساسي في التوعية والمساهمة في تجهيز وإدارة المقابر.

 

مشروع مقبرة “أخربان” بطريق مطار المسيرة ليس مجرد فكرة جديدة، بل هو مشروع قديم حان الوقت لإحيائه كحل جماعي ومستدام. أما البحث عن حلول داخل مدينة إنزكان، فهو خيار متجاوز لا يراعي احتياجات المستقبل، بل يكرس فقط الحلول الترقيعية. كما نجحت أكادير في تجاوز أزمة مقابرها بإنشاء “تليلا” بدل “لاحشاش”، يجب أن يحذو إقليم إنزكان نفس الحذو، ويعتمد “أخربان” كبديل يراعي كرامة الموتى ويحترم حق الأجيال القادمة في فضاء منظم ومجهز لدفن موتاهم بكرامة.


✍ البشير أحشموض

الأخبار ذات الصلة

1 من 1٬279

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *