تشكل الدعوة التي تلقاها الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني من نظيره الأمريكي دونالد ترامب للمشاركة في قمة مصغرة بواشنطن يوم الثلاثاء، محطة دبلوماسية لافتة تتجاوز أبعادها الاقتصادية المعلنة، وتحمل في طياتها رسائل استراتيجية متعددة على مستوى التموقع الإقليمي والدولي لموريتانيا، في سياق إقليمي يشهد تحولات عميقة في موازين القوى، ووسط إعادة تشكل التحالفات في منطقة الساحل والصحراء.
القمة، التي تضم إلى جانب موريتانيا عددا من دول غرب ووسط إفريقيا، مثل السنغال والغابون وغينيا بيساو وليبيريا، تندرج في إطار مقاربة أمريكية جديدة تهدف إلى تعزيز الشراكة الاستراتيجية مع القارة الإفريقية، بديلا عن النموذج التقليدي للمساعدات.
غير أن التركيز الأمريكي على نواكشوط يحمل دلالات أعمق، تعكس إدراكا متناميا لدى واشنطن للدور المحوري الذي تلعبه موريتانيا في المنطقة، كفاعل قادر على الحفاظ على الاستقرار السياسي والانفتاح الدبلوماسي، في محيط إقليمي يشهد صراعات أمنية متصاعدة، وانقلابات سياسية متتالية.
مشاركة الغزواني في هذا المحفل الأمريكي، وفي هذا التوقيت بالتحديد، تمنحه دبلوماسيا هامش مناورة أوسع في عدد من الملفات الحساسة، وعلى رأسها ملف الصحراء المغربية، الذي ظل يحضر ضمن النقاشات الجيوسياسية الإقليمية والدولية، حتى وإن لم يتم التصريح به في الأجندات الرسمية.
وتدل المؤشرات المتاحة على أن الولايات المتحدة تتابع هذا النزاع باهتمام خاص، نظرا لتقاطعه مع أولويات الأمن والاستقرار في منطقة المغرب العربي، التي تعتبرها واشنطن من الفضاءات الحيوية المرتبطة بأمنها القومي.
وفي ظل تأكيد مصادر دبلوماسية موريتانية على أن نواكشوط تحتفظ بموقف “الحياد الإيجابي”، يتضح أن موريتانيا باتت تحظى بثقة الشركاء الدوليين، بالنظر إلى مقاربتها المتزنة، وموقعها الجيوسياسي الذي يجعل منها جسرا بين إفريقيا جنوب الصحراء، والمغرب العربي، والعالم العربي ككل. هذه المكانة، التي تكرّست في السنوات الأخيرة، خاصة بعد رئاسة موريتانيا للاتحاد الإفريقي، تعززها مشاركة الرئيس الغزواني في قمة واشنطن، وتؤكد أن بلاده أصبحت رقما صعبا في التوازنات الجيوسياسية الجارية في القارة.
ورغم عدم إعلان البيت الأبيض عن إدراج نزاع الصحراء المغربية ضمن جدول أعمال القمة، إلا أن طبيعة القضايا التي ستُناقش، والتي تشمل الأمن والتنمية والتعاون الإقليمي، تفتح المجال واسعاً لتداول هذا الملف ولو بشكل غير مباشر، سواء في الجلسات الثنائية أو على هامش اللقاءات الرسمية.
وتراهن الإدارة الأمريكية، بحسب عدد من المراقبين، على الدور الموريتاني لبلورة حلول واقعية تنسجم مع المقاربات البراغماتية التي تتبناها واشنطن، وعلى رأسها دعم الحكم الذاتي كحل عملي للنزاع.
وتأتي القمة في لحظة مفصلية، حيث تشهد المنطقة تسابقا محموما بين قوى دولية وإقليمية، منها الولايات المتحدة، على استقطاب شركاء موثوقين في القارة الإفريقية، خصوصا بعد تراجع النفوذ الفرنسي، وصعود أدوار كل من روسيا والصين.
وفي هذا السياق، تمثل موريتانيا بالنسبة لواشنطن شريكا موثوقا، بفضل استقرارها السياسي، ومقاربتها الأمنية، وحيادها الدبلوماسي، مما يجعلها مرشحة للعب أدوار وساطة أو تيسير في ملفات تتجاوز حدودها، وتمس مباشرة بتوازنات المنطقة ككل.
قمة الثلاثاء إذن ليست مجرد مناسبة بروتوكولية، بل لحظة سياسية فارقة تعيد تثبيت موريتانيا كفاعل إقليمي معتبر، وتبرز سعي واشنطن لإعادة رسم أولوياتها في إفريقيا عبر شراكات قائمة على المصالح المتبادلة والتقدير المتبادل للأدوار، بعيدا عن منطق الإملاءات أو الاصطفافات.